طار عقد التلزيم الرضائي بين بلدية بيروت ونادي الأنصار لترميم وتجهيز الملعب البلدي الكائن في منطقة الطريق الجديدة واستثماره، بعدما انتشر الخبر في الإعلام ووصل إلى مسامع هيئة الشراء العام التي طالبت البلدية بالامتثال للقانون.
رئيس نادي الأنصار والنائب عن بيروت نبيل بدر قدّم عرضاً لاستثمار الملعب ومنتفعاته كلّها بما يقارب 4 ملايين دولار لمدّة 9 سنوات ومنها كلفة تجديد “شباب” الملعب. أي ما يعادل أقل من 500 ألف دولار سنوياً. وهي قيمة تساوي تقريباً القيمة التأجيرية لفيلا في بيروت أو جبل لبنان. فكيف يمكن تأجير وتشغيل الملعب البلدي في بيروت، الواقع في قلب العاصمة، والذي يمكن تحويله إلى خلية عمل ونحل رياضية وسياسية وتجارية واستثمارية، بهذا المبلغ الضئيل؟
إرث المدينة… ووسطها
الملعب هذا هو “قلب بيروت” إذا صحّ التعبير. هو أبعد من مجرّد “صفقة تجارية” أو “معبر رياضي”. هو إرث ثقافي من تراث المدينة، وتحديداً الطريق الجديدة. لأنّ الملعب كان المنشأة الأولى في الطريق الجديدة. حتى إنّ الحيّ ارتبط بالملعب وسُمّي باسمه: “الملعب البلدي”. ويرتبط الملعب بالذاكرة الشعبية البيروتية ارتباطاً وثيقاً، إذ بناه الفرنسيون في عام 1936 وسلّموا مفاتيحه بعد الاستقلال لقائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب. وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، تعرّض الملعب للتدمير، واجتمع المسلمون والمسيحيون داخله وصلّوا اعتراضاً على الاجتياح. وارتبط تاريخ كرة القدم اللبنانية بهذا الملعب ارتباطاً قويّاً، إذ تعاظم فيه شأن كرة القدم اللبنانية وخرّج أجيالاً رياضية على مرّ السنين. وشهد أقوى المباريات التي حفرت في ذاكرة اللبنانيين طويلاً، ولا تزال.
فما هي القصّة الكاملة لهذا التلزيم؟ كيف ردّت بلدية بيروت؟ ما هو الرأي القانوني الذي أبدته هيئة الشراء العام في الاتفاق؟ ما موقف الجهة التي كانت ترغب بتنفيذ هذا المشروع؟ وهل فعلاً كان هناك “تمريقة” فيها مكاسب مالية غير شرعية “أوقفها” ناشطون فضحوا المشروع قبل تسريبه لهيئة الشراء العام؟
مراسلات البلديّة مع هيئة الشراء العامّ
في 18 نيسان، قبل شهر تماماً، أرسل رئيس هيئة الشراء العام جان العلّية كتاباً إلى بلدية بيروت طالباً تزويده بالسند القانوني لإجراء هذا العقد الذي لم تعلم به هيئة الشراء العام، واستوضح منها عن سبب عدم الإعلان والنشر على الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام. وطلب العقد وكامل المستندات التفصيلية المتعلّقة به، “ليُبنى على الشيء مقتضاه القانوني”.
ردّت البلدية على العلّية بكتاب أكّد أنّ بلدية بيروت لم تعقد أيّ اتفاق بالتراضي أو غير ذلك مع أيّ جهة كانت لترميم وتشغيل ملعب بلدية بيروت البلدي، وأوضحت في كتابها الموقّع بتاريخ 3 أيّار 2023 (مرفق pdf) أنّ نادي الأنصار الرياضي قد تقدّم بطلب إلى المجلس البلدي يطرح فيه استعداده لترميم وتشغيل وإدارة هذه المنشأة على نفقته بهدف إعادتها صرحاً رياضياً قادراً على استقبال الأحداث الرياضية والمدنية والأهلية، ووضع استثمار بمبلغ مليون ونصف مليون دولار لهذه الغاية.
أشارت البلدية في كتابها إلى أنّ هدف المجلس البلدي هو السعي إلى صيانة الملعب البلدي وإعادة تشغيله وفتحه أمام مباريات كرة القدم واستفادة المواطنين منه: “ولا سيما أنّ إمكانيات البلدية المادّية أصبحت ضئيلة جدّاً”، وأنّ المجلس البلدي اتّخذ القرار رقم 393 بتاريخ 13/12/2022 الذي قضى بالموافقة المبدئية على عقد اتفاق مع نادي الأنصار لهذه الغاية، وأكّدت التزامها بقانون الشراء العام، وتمنّت على الهيئة إفادة البلدية بالرأي القانوني والأطر التي ترعى مثل هذه الحالات.
البلديّة ترضخ “على مضض”
بعد مجموعة اتصالات بالأطراف المعنية، علم “أساس” أن لا نيّة لدى البلدية للتحدّي ولو على مضض. وأشار مصدر متابع للملفّ إلى أنّ الأمر لم يخلُ من بعض الضغوط “الناعمة” لتمرير هذا العقد لغايات توافقية سياسية، إلا أنّه لا مسوّغات قانونية لاعتبارات كهذه، لأنّ ذلك سيفتح الباب أمام بلديّات أخرى لتنفيذ عقود مماثلة، ولذلك لا بدّ من إجراء مزايدة قانونية، على أن يربح من يقدّم السعر الأعلى.
من غير المعروف حتّى الساعة ما إذا كانت هناك أطراف أخرى مهتمّة بهذا الاستثمار. لكن إن لم يتقدم أكثر من طرف إلى المزايدة، فهناك حالات معيّنة في قانون الشراء العام مذكورة بالفقرة 5 من المادة 24 تسمح بالتعاقد مع شركة واحدة. لكنّها آخر الحلول، والأولويّة الآن لإعداد دفتر شروط يلبّي مصلحة البلدية ومن غير شروط تعجيزية، لتأهيل الملعب وتوضيح القيمة الاستثمارية وقيمة العائدات وحصّة البلدية منها.
رأي الهيئة القانونيّ.. وإدارة الأنصار
بعد توضيح البلدية، جاء الرأي القانوني من هيئة الشراء العام قبل أيام (مرفق PDF) بضرورة إجراء مزايدة قانونية، بموجب المادّة الثالثة من قانون الشراء العامّ، والمادة الأولى من القانون نفسه لناحية إتاحة الشفافيّة والعلنية والتنافسية وسائر المبادئ التي تتعلّق بالنظام العامّ.
“الأنصار” يوضّح
أما عن الوضع بعد ردّ هيئة الشراء العامّ، فيؤكّد محافظ بيروت القاضي مروان عبود لـ”أساس” أنّ الملفّ في المجلس البلدي لم يُتّخذ فيه أيّ قرار بعد ويتمّ درس إخضاعه لقانون الشراء العامّ.
بدوره رئيس البلدية جمال عيتاني يكشف لـ”أساس أن لا قرار نهائي في الملف حتى الساعة، على أن يناقش المجلس البلدي العلاقة بين المطوّر أو المشغل والبلدية، ما هي حقوقه وما هي حقوق البلدية. وسنطلب من المحافظ تحضير دفتر الشروط، ومن ثم الذهاب إلى طرح مزايدة عملاً بتوصيات هيئة الشراء العام”.
لا تفاصيل حول عائدات البلدية من المشروع وما إن كان سيكون هناك عائدات أم لا. لكنّ عيتاني يوضح أنّه سيكون هناك دراسة علمية تقنية حول المشروع تعلن “كلفة التأهيل والتشغيل، وإن كان المدخول سيغطي هذه التكلفة والاستثمار وإن كان سيزيد عن هذه الكلفة، ليكون هناك مدخول للبلدية”.
ويضيف: “سنضع الإطار وليتقدم على المزايدة من يريد، ومن يدفع أكثر للبلدية سيفوز”. ويذكّر بأنّ البلدية كانت قد بدأت بتأهيل المنشأة وتوقفت بسبب الأزمة المالية وكورونا: “ومن أولوياتها كان إعادة الحياة للملعب البلدي، لكن اليوم لم يعد لدى البلدية القدرة على هذا التأهيل، لذلك فكرنا بمشاركة القطاع الخاص، وكان الهدف الأساسي والشرط الأول هو فتح الملعب للناس وإعادة تأهيله بطريقة تليق بالأهالي والمنطقة والرياضة”.
كذلك علم “أساس” من مصادر المجلس البلدي أنّ هناك شبه إجماع في المجلس على الضغط باتجاه نقاط معينة أساسية، أبرزها حقّ البلدية والمال العام من العائدات، لأنّها بأمسّ الحاجة للمال في هذه الأيام، وضرورة البحث في فترة هذا الاستثمار على اعتبارها طويلة (9 سنوات) ومحاولة الضغط نحو تقليصها الى أربع سنوات قابلة للتجديد.
رئيس نادي الأنصار… و”استثماره”
بدوره فإنّ النائب نبيل بدر، وهو رئيس نادي الأنصار قبل أن يصير نائباً، يؤكّد لـ”أساس” أنّ المنشأة مهملة منذ 15 سنة: “فكّرنا في إعادة إحيائها من خلال إعادة التأهيل والترميم وزراعة أرضها بالعشب الصناعي وتهيئتها لاستقبال مختلف الفعّاليات الرياضية والاجتماعية، ولهذه الغاية خصّصنا مبلغ مليون إلى مليون و700 ألف دولار للقيام بهذا المشروع خدمة لأهل المنطقة والرياضة”. ويشدّد على أن لا اتفاق رضائيّاً وقع بين النادي والبلدية، بل “مجرّد فكرة عرضناها على بلدية بيروت ومستعدّون للقيام بها وفق المسار القانوني اللازم”.
ماذا عن المنافسة بين نادي الأنصار وغيره من الأطراف التي يمكن أن تكون مهتمّة بمثل هذا المشروع، في حال طرح مزايدة قانونية لتأهيل واستثمار الملعب البلدي؟
يجيب بدر: “أشكّ في أن يكون هناك مهتمّون بهذا المشروع، فالرياضة كانت ملجأ لبعض السياسيين ليحقّقوا من خلالها رضا الشارع، لكن اكتشفنا مع الوقت أنّ الرياضة لا تتقرّش أصواتاً في الصناديق، يعني لا وزن سياسياً لها في لبنان”، مؤكّداً أنّ هذا الأمر نلاحظه من خلال غياب السبونسرز: “فمثلاً منذ 10 سنوات لم يحصل نادي الأنصار على سبونسر، وباقي الأندية تعاني أيضاً من نفس الموضوع”.
نهلا ناصر الدين – اساس ميديا