عيوننا عليهم وعيونهم على الهجرة. يغتربون ويرسلون الأموال إلينا، فنفرح بها ونتابع العمر ونحن نحسب دولاراتهم في خزينتنا المثقوبة. لكن، هل نهتم بما يعيشون ويقاسون ويواجهون؟ وهل الإغتراب ما زال مجدياً لأولاد لبنان العزيزين؟ وهل الإغتراب اليوم هو نفسه اغتراب البارحة؟ هل أفريقيا لا تزال الملاذ؟ هل دول الإمارات وقطر والكويت والبحرين ما زالت جالبة للأموال والثروات؟ وهل تعرفون أن هناك مقاصد جديدة بات ينظر إليها اللبناني ويفتش عنها قد تصلح للهجرة الجديدة؟
قدّر البنك الدولي حجم تحويلات المغتربين الى لبنان في العام 2022 بنحو 6,8 مليارات دولار أميركي (كان المبلغ 6,6 مليارات دولار في 2021). بمعنى أن مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي هي 38 في المئة. تشكّل ثلث ناتجنا المحلي. إنها سبيل من سبل البقاء والنجاة. لكن، نكرر السؤال، هل ننتبه الى هؤلاء كما ينتبهون إلينا؟ نسيب غبريل، الإقتصادي والمصرفي، يتحدث عن مليون و700 ألف مغترب لبناني غالبيتهم على تواصل دائم مع لبنان. وحنين هؤلاء يشتدّ الى لبنانهم في المحن. إنهم ينتشرون في كل أنحاء المعمورة، ما ساعد لبنان على عدم التأثر بالأزمات الخارجية، فإذا تعثر الإقتصاد الخليجي أرسل المغتربون في أفريقيا الحوالات. وإذا تعثر الإقتصاد الأميركي أرسل اللبنانيون المغتربون الأموال من أفريقيا وأوروبا. لكن، هل سمعتم عن اغتراب جديد الى بلدان جديدة قادر اللبناني على الإستثمار فيها؟
إلى جزيرة موريشيوس
توجهنا الى موريشيوس. هي تبعد عن لبنان مسافة 6,446 كيلومتراً جواً. هناك التقينا القنصل الفخري للبنان في بورت لويس- موريشيوس وهي إمرأة تدعى ميرفت عدنان هاشم من جديتا. فماذا تخبرنا عن اللبنانيين في تلك الجزيرة البعيدة؟ هل يستثمرون هناك؟ وهل هناك مجالات للإستثمار لمن ينوي التغرّب؟ هي تزوجت من مواطن من موريشيوس ولديها ابنتان وتهتم بكل لبناني يصل، تفتح له منزلها وتمنحه كل المعلومات التي يحتاج إليها بالتعاون مع القتصل الفخري لموريشيوس في لبنان سالم بيضون. تقول: «هناك اليوم ستون لبنانياً في الجزيرة. هناك من أتوا ليعملوا في تصفيف الشعر. إنهم مرغوبون جداً هنا. وهناك طهاة يصنعون الأكل اللبناني اللذيذ. وكل من يصل الى هنا يتصل بي ومن لا يفعل يطلب مني القنصل في لبنان سالم بيضون الإتصال به. نتابعه. نسهل إنجاز أوراقه الكاملة. وهناك قتصلية لبنانية ايضاً في مدغشقر. ونحن موصولون بسفير لبنان في جنوب أفريقيا قبلان فرنجيه. هو المسؤول عن كل المنطقة. ونحن نعود إليه. ونعمل على تشجيع الإستثمار اللبناني في المنطقة. نبحث عن فرص الإستثمار المتاحة ونرسل المعلومات الى السفارة».
ما هي فرص الإستثمار هناك؟ تجيب القنصل الفخري «الأمر ليس سهلاً، فللشروع باستثمار جديد يحتاج اللبناني الى مبلغ لا يقل عن 500 الف دولار أميركي والى إقامة دائمة. وهناك «زون» معين لشراء البيوت. والإستثمارات تتركز هناك أمام اللبنانيين في القطاع السياحي والزراعي ايضاً. المصريون سبقوا اللبنانيين الى هناك. الإستثمارات المصرية كثيرة. وهناك لبناني إستثمر في تلك الجزيرة في أعمال النجارة. وهناك لبنانيان يعملان في أهم شركة أدوية، شركة آسبن لصناعة الدواء، يديران فرعها الاساسي في موريشيوس، التي كان لها تأثير إيجابي جدا خلال جائحة كوفيد 19. اللبنانيات هناك أكثر من اللبنانيين ومعظمهن تزوجن أشخاصاً من تلك الأرض الجميلة. مدير بيرغر كينغ هناك أيضا لبناني. ويفترض في من يريد الحصول على فرصة عمل – لا استثمار مباشر – أن يضيف على مهنة ما عناصر جديدة. أحد مصففي الشعر من اللبنانيين يعمل الآن هناك من خلال أسلوبه الخاص في صبغة الشعر وبات يعلّمه أيضاً. وكلفة تصفيف الشعر هناك لمعلوماتكم تبلغ 20 يورو. تتحدث القنصل ميرفت هاشم بكثير من الشغف عن موريشيوس وعن لبنان أيضا وطفلتها لا تدندن وهي ذاهبة صباحاً الى مدرستها إلا أغنية فيروز: بحبك يا لبنان.
لبنانيو الإمارات
هذا الشغف الذي يتمتع به المغترب بلبنانه – وللبنانه- هو ما يتكل عليه لبنان ليبقى ويستمر.
فلنذهب الى الإمارات لنتعرف على كيفية عيش اللبناني حاليا في اغترابه؟
لبناني؟ ما زال يسأل اللبنانيون هناك أي إنسان يتكلم بلهجتنا عما إذا كان قد وصل من بلادنا. هناك ما زال اللبنانيون يرددون: كلنا للوطن ولأبنائه. ويضعون رسم برج خليفة يوم التحف بالعلم اللبناني. ويروّجون للأكل اللبناني، ويسمون محلاتهم باسم لبنان: حلويات ربوع لبنان في الشارقة. وأفران زهرة لبنان في أبو ظبي… ويفتخرون: بس حدا يسألنا: إنتو من وين. منجاوب: من لبنان ونفتخر. كثير من اللبنانيين يعملون هناك في الإعلام والإعلان. وهناك صناعيون كبار وتجّار. رواتب اللبنانيين تقلصت بعد انهيار الوضع في بلادهم لكن دولة الإمارات العربية المتحدة كانت ولا تزال كريمة. يقارب عدد اللبنانيين هناك المئة ألف. وهناك من يجزم أن الرقم أعلى. وهؤلاء، أولاد الجالية، يتركون بصمات أينما حلّوا. لكن، كيف لهم أن يساعدوا بلادهم وأهلهم وهم يلهثون وراء تأمين مستقبلهم؟ إذا كان اللبناني يتقاضى ثلاثة آلاف دولار في دبي (أي ما يعادل عشرة آلاف درهم) فبالكاد يتمكن من إستئجار شقة هناك والتنقّل بسيارات الأجرة وتأمين أولويات الحياة. وإرسال 200 أو 300 دولار الى أهله هنا. أما هنا، فدولتنا تستمر في الإتكال على غربتهم.
الرواتب إلى النصف
فلنذهب الى الكويت. ماذا عن حال الجالية اللبنانية هناك؟
هناك ما لا يقل عن 400 ألف لبناني في الكويت. فرص العمل تراجعت هناك ورواتب العمالة الأجنبية – واللبنانية – أيضاً. فالكويت إعتمدت سياسة توظيف المواطنين. موظفو الرواتب العالية، من أجانب لبنانيين وغير لبنانيين، جرى تسريح كثيرين منهم والإعتماد على العمالة الوطنية مكانهم. واللبنانيون الذين كانوا يعملون براتب 1500 دينار باتوا يقبلون براتب يقل عن 700 دينار. عبء جديد إضطرهم الى إرسال عائلاتهم الى لبنان وإرسال بعض مئات الدولارات إليهم ليتناسب الراتب الإغترابي الجديد مع التطورات الجديدة خصوصاً بعدما تبخّر جنى أعمارهم في المصارف. فهل يتوجب على هؤلاء أن ينعشوا أيضا الخزينة اللبنانية؟ مهلا، ها هي المواطنة الكويتية فجر السعيد تمنع من دخول لبنان وكلام من الكويت يقول: دولتنا لن تسمح بعد الآن بالإستمرار بالتعاطي، بهذا الأسلوب، مع مواطنينا. إنتهى الخبر والتعليق. اللبنانيون في الكويت كما في الإمارات كما في السعودية وكما وكما… أيديهم على قلوبهم. لأن هناك من يرتئي دائما اللعب على هواه في لبنان الراكد على استنزاف وفساد.
المغتربون طالما كانوا نقطة قوّة، ساعدت لبنان بالصدفة، ومنحته نفساً طويلاً ولو على أوكسجين إصطناعي. فلنتابع أحوال اللبنانيين في الكويت. هناك لبناني من طرابلس من آل الخطيب يعمل في الكويت وجد متوفياً في شقته في 29 أيار الماضي. فهل من يعرف عن أقاربه في لبنان شيئاً؟ هو اغترب وعمل واتكلنا عليه كثيراً ومات وحيداً، لم يعطه أحد نقطة مياه. مغتربون كثيرون مثله وها هي دولتنا تستفيد من دنانير المغتربين ودولاراتهم معتبرة أنهم خروف لحمه طيب. إقامة ابن الخطيب في الكويت كانت قد انتهت قبل أسبوع من وفاته.
تركيا صيدلية لبنان
حال اللبنانيين في الدول العربية تنسحب على حالهم في كل دول العالم. اللبناني بطبعه قبضاي وابن ذوات. هكذا تعلمنا منذ الصغر. أما اليوم فأصبحت حاله حالاً. فها هم في تركيا يهرولون أيضا وراء اللقمة. وها هم اللبنانيون في لبنان يهرولون وراء دواء مفقود – وباهظ الثمن – في لبنان. نتابع هؤلاء اللبنانيين في تركيا، فنراهم يسألون: لو سمحتم في حدا نازل على لبنان بدنا نبعت أدوية. ونرى سواهم يسألون: نحن سننزل الى لبنان فهل يريد أن يرسل أحد شيئاً؟ اللبنانيون بعدما كانوا مستثمرين كباراً، يحدثون الفرق في قطاعات الصناعة والتجارة والسياحة والتربية في العالم، باتوا أقرب الى ذهنية العمال. أمور كثيرة تغيرت والغربة – والإغتراب – أيضا.
كأننا نعيش في العصر الحجري. كأننا فيه. القلب في لبنان والعين على الخارج والجميع تجمعهم المصيبة الواحدة: فساد الحكام في لبنان. نعود الى موريشيوس. نصغي الى القنصل الفخري ميرفت هاشم هناك. ننصت الى طفلتها تغني: بحبك يا لبنان. نلمح في عيني القنصل دمعتين وهي تقول: أبكي يومياً دماً على بلدي. فنتأكد أن الدولة تراهن على عاطفة اللبناني- بالإضافة الى ماله – لتعيش.
بالأرقام التقريبية
اللبنانيون في باريس 250 ألفاً. في السعودية 300 ألف. في الإكوادور 100 ألف. في المكسيك 400 ألف. في الكويت 40 ألفاً وهناك من يضرب الرقم بعشرة. في كندا 449 ألفاً. في أستراليا 500 ألف. في الولايات المتحدة الأميركية أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. في البرازيل 10 ملايين وأكثر. في الأوروغواي 70 الفاً. في ألمانيا 50 ألفاً. في اليونان 30 ألفاً. في قطر25 ألفاً. في جنوب أفريقيا وبينها موريشيوس 20 ألفاً. في الدنمارك أكثر من 23 ألفاً. في سيراليون 10 آلاف. في غانا ستة آلاف. في بلغاريا ثلاثة آلاف. في العراق 20 ألفاً. في الإمارات 100 ألف. وفي دول الخليج مجتمعة 750 ألفاً. في فنزويلا 420 ألفاً. هي أرقام تقريبية فلبنان لا يحب الأرقام بطبيعته. لكن الأكيد أن عدد من يحملون الجنسية اللبنانية في العالم كبير كبير والإتكال في دولة «مأفلسة» تبقى عليهم، على تحويلاتهم، حتى إشعار آخر.
نداء الوطن