رياض سلامة يضرب ضربته ويُغادر إلى منزله!

“الهزّة الخفيفة” التي شعرَ بها السوق يوم أمس جاءت مفاعيلها مخالفة على نحو ما كان متوقعاً. بقيَ الدولار ضمن هوامش مقبولة بالرغم من تجميد مصرف لبنان عملية ضخ العملة الصعبة. لم يأتِ ما جرى كنتيجة لسياسات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بقدر ارتباطها بتهيّب الجميع ممّا تحمله الأيام المقبلة، إذ أن أحداً ليس في وارد المغامرة.

ليست كل المصارف على قلبٍ واحد، تماماً كحال نواب حاكم مصرف لبنان المقدمين على الإستقالة تباعاً، والذين تسود بينهم تباينات عميقة. أمس، انقسمت المصارف قسمين: الأول بقيَ فاتحاً أبوابه لاستقبال طلبات “إيداع” صيرفة. أما المفارقة فكانت إنخفاضاً ملحوظاً في مستوى الإقبال إلى حدٍ لم تشهده التعاملات منذ أن بوشر العمل فيها. التفسير الطبيعي أن أحداً، في ظل النقاش الجاري حول مستقبل المنصة، ليس مستعداً للتضحية في ما يمتلك من ليرات. القسم الثاني، رفض، منذ الجمعة الماضي، قبول أي إيداعات تُذكر، فيما أبقى، كالقسم الأول، على تسليم المبالغ المودعة لديه منذ الرابع عشر من الشهر الجاري.

التبرير العملي لما يجري يقسم إلى قسمين أيضاً. المصارف المنتمية إلى القسم الأول والمستمرة في صيرفة، تبرّر موقفها بأن مصرف لبنان لم يصدر تعميماً بوقف التعاملات، وبالتالي فإن “صيرفة مستمرة”. وقد مرّرت بالفعل تعاملاتٍ محدودة جداً أمس. بينما القسم الثاني يندرج ضمن خانة “المتهيِّب”. إذاً ونظراً للجو العام، قرّر وقف تعاملاته بصورة أحادية “حتى لا يدخل بسين وجيم مع زبائنه”.

أبعد إلى ذلك، بدا أن “التهيّب” من جراء صيرفة مردوده إلى نتائج إجتماع حاكم مصرف لبنان بنوابه الأربعة الأسبوع الماضي وما تبع ذلك من نتائج، إذ لم يكن الإجتماع على صورة ما سُرِّب لناحية الأجواء الطبيعية التي شهدته. حاول الحاكم إقناع “نوابه” بضرورة إستمرار صيرفة، وبالتالي إستمرارهم، دون أن ينجح، وقد أصرّ هؤلاء على استبدالها واستبدال استراتيجيته. وعندما أدركَ الحاكم أن الأمور ذاهبة من قبلهم نحو المواجهة وإقفال المنصة، قرّر الإنتقال إلى “اللعب على المكشوف”. أبلغهم أنه، وطبقاً لما سمع، سيكفّ عن التدخل في السوق بشكلٍ مباشر، وسيعتبر نفسه أنه بات في حكم المتقاعد، أي وبعبارة أوضح “إنسحب” كلياً، وقرّر الذهاب إلى منزله وتركهم وحيدين كي يقرّروا شكل الآليات التي ستتبع. ثم استتبعَ قراره بإيعاز إلى كل المتعاملين معه بوقف تدخلهم. أدّى ذلك إلى إدخال السوق في نوع من التخبّط، كذلك “نواب الحاكم” الذين في حيرة من أمرهم. وقد فسّر البعض خطوة سلامة أنها تأتي في إطار الضغط على نوابه، ولوضعهم أمام حالة تجربة السوق في حال فقدان العمل بصيرفة، ودفعهم إلى معاينة ما قد يحدث وقتذاك، في محاولة منه لإدخال الكل في مواجهة الكل، ولأخذ القوى السياسية صوب الضغط على نوابه وإجبارهم على الإستمرار بالمنصة، وهو موقف مستغرب من الحاكم الذاهب إلى التقاعد، فلماذا مهتم إلى هذه الدرجة بـ”صيرفة”؟

إذاً تحرّك الدولار يوم أمس صعوداً ضمن الهوامش التي يتحرّك فيها عادةً منذ أن بدأ نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة تهديداتهم بالإستقالة. دون ذلك، لم تحضر يوم أمس أي عوامل أو معطيات إيجابية مختلفة عمّا جرى أمس الأول. الأمر الوحيد الإيجابي الذي سُجل، مبادرة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، إلى تنفيذ ما وعد به حيال عزمه زيارة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، للتداول معه بأفكار على صلة بوضعية المصرف المركزي. بحسب المعلومات، أعاد برّي التشديد أمام ميقاتي أنه مع تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، مفضلاً الدعوة “في الحال” إلى جلسة للحكومة، فيما توقعت أوساط احتمال حصولها بعد غدٍ الخميس. بهذا يكون بري مبدئياً قد قال ما لديه، وأقلع بصورة نهائية، وربما مرغماً، عن فكرة التمديد لرياض سلامة. بالنسبة إلى ميقاتي الذي لم يُغادر الخيار أبداً، تشاور مع رئيس المجلس حول نتائج الإجتماع الذي عقده مع النواب الأربعة. وفُهم من متواصلين معه، أنه عرض على بري طلبهم إصدار تشريع من مجلس النواب يُغطي الإنفاق من الإحتياطي لتمويل بعض الأمور الضرورية والطارئة، من غير أن يعرف ما إذا كان بري قد وافق على الشرط أم لا.

عملياً، حضر هذا الشرط من قبل “نواب الحاكم” على قاعدة “ألّلهم إنا قد بلغنا”. وقد جاء أيضاً قبل ساعات من عزمهم تقديم استقالاتهم بشكلٍ جماعي. ما يريده هؤلاء إيجاد تبريرات للإستقالات على نحو ما يحصل، أو في حد أدنى، تأمين مخرج للإستقالة لا يضعهم في “بوز المدفع”، وكي لا يشكلوا إستمرارية للحاكم الراحل. من ناحية أخرى، يبدو أن ميقاتي عازماً على إنتاج تخريجة تتولى ترتيب “اليوم التالي” للإستقالة، على صعيد تنظيم الأمور في مصرف لبنان، وعلى صعيد الجهة المخوّلة قبول الإستقالة، ومن ثم تكليف النواب “تسيير الأعمال”.

أكبر مثال على ذلك، التخبّط الذي يعيشه النائب الأول للحاكم وسيم منصوري المنطبقة عليه مندرجات المادة 25 من قانون النقد والتسليف لناحية تسلّمه مهام الحاكم في غيابه. لغاية هذه اللحظة، لم يصل لمنصوري، أو أنه شعر أن برّي مؤيد لخطوة تولّيه حاكمية المصرف، فيما بري يقبع على الطرف المقابل، مكرّراً أنه ليس مؤيداً للفكرة، وبالتالي، يشعر منصوري أنه معزول وفاقد للحصانة السياسية.

في حالة منصوري الراهنة لا بد له أن يتمتع بغطاء، ولا يبتغي أن يعثر عليه لدى “حزب الله”، لعلمه بمقدار الضرر الذي قد يسببه له الحزب. بالنسبة إلى ميقاتي، فالأخير وإن أضمر قبولاً في تولي منصوري الحاكمية، ومضطراً مخافة الفراغ، لكنه غير قادر على مقاربة ما يضمر رغبةً منه في مجاراة بري في موقفه، ولعلمه أن بري ـ الذي يتقاسم معه الحكم اليوم – غير مرحِّب بالفكرة، وكذلك غير داعم لكل من يطرحها.

ويبدو أن ميقاتي يُدرك جيداً تبعات أي خطوة حقيقية تجاه إستقالة نواب الحاكم. لذلك، عمل على تهدئتهم عبر انتزاع مهلة 48 ساعة منهم إنقضى منها حتى الآن أكثر من نصفها، دون أن يتحقّق شيء من الذي وعدهم فيه. شراء الوقت الذي نجح ميقاتي في تحقيقه، أفاده على عدة مستويات، منها ما ظهر عليه كعنصر فاعل لدرء حالة “الطوفان” القادمة في مسألة الليرة وسعرها، ومنها للتنصّل من أي مسؤولية قد تلقى على عاتقه من جراء ما قد يحصل. من جهة أخرى استخدم كل الأجواء الجارية في مسألة التسويق لبقاء رياض سلامة من خلال تخريجة ما يتولى مجلس الوزراء إنتاجها.

أمام كل ما يحصل، أين الأميركيين؟ ثمة من يُردّد أن الأميركيين استقالوا من الأزمة التي يتخبّط فيها مصرف لبنان، وهذه إحدى الأسباب التي تدفع منصوري إلى “التهيّب” و “التردّد” في قبول المنصب، وتفضيل التوجّه صوب الإستقالة.

ليبانون ديبايت

Exit mobile version