يدخل لبنان اليوم فعليّاً مرحلة التنقيب عن النفط والغاز في البلوك رقم 9، مع توقّعات متفائلة باكتشافات تجارية في غضون 67 يوماً. جاءت الخطوة في أعقاب اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل. مسار طويل انتظره لبنان لأكثر من عشر سنوات، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مركزياً: هل ينتقل لبنان من دولة مأزومة إلى مصافّ الدول النفطية؟ ومن سيدير هذه الثروة؟
وصلت باخرة التنقيب عن النفط والغاز في البلوك رقم 9 الواقع جنوباً، إلى نقطة الحفر المحدّدة لها يوم الأربعاء الماضي. يقوم بعملية التنقيب في هذا البلوك كونسورتيوم شركات مؤلّف من شركة “توتال إنرجيز” الفرنسية، ومعها شركتا “إيني” الإيطالية و”قطر للطاقة” التي حلّت بدلاً من شركة “نوفاتيك” الروسية بعد انسحابها من التحالف بفعل العقوبات الأميركية على قطاع الطاقة الروسي، والثلاث تتشارك بنسب متساوية تقريباً.
ماذا تقول التوقّعات الأوّلية؟
تقول التوقّعات الأوّلية إنّ لبنان يمكن أن يستفيد من ثروته النفطية في غضون أربع سنوات متى سارت الأوضاع طبقاً للمرسوم وبصورة طبيعية بعيداً عن تطوّرات الأوضاع الميدانية والإقليمية. وتتحدّث “هيئة إدارة قطاع البترول” عن حظوظ قويّة لاكتشاف تجاريّ، وهذا ما لمسته من خلال شركات التنقيب توتال وشريكتاها. فـ”ليس المهمّ الاكتشاف بل تطويره بتوصيل الغاز إلى لبنان لحاجتنا إليه”.
تقول معلومات “أساس” إنّ الهيئة فتحت حالياً دورة تراخيص جديدة لثمانية بلوكات، “ونشجّع الشركات على التقدّم لاستثمارها خلال الشهر الباقي لتقديم الطلبات. هناك الكثير من الشركات التي أظهرت اهتمامها، لكنّها تنتظر الاكتشاف التجاري لأنّه كفيل بأن تبدأ الشركات بتقديم عروضاتها. وهذا ما لمسناه من زيارتنا خارج لبنان للترويج للبلوكات، وكان الجواب أنّ الشركات تأتي فور الاكتشاف التجاري، ويهمّنا التلزيم في البلوكات 8 و10”. تكشف مصادر الهيئة عن وجود شركة ستعمل مسحاً ثلاثياً في البلوك 8 بينما تهتمّ توتال بالاستثمار في البلوكين 8 و10.
تضيف الهيئة حسب مصادرها لـ”أساس”: “نحن منفتحون كدولة لبنانية على جذب الشركات للاستثمار في بلوكات أخرى. تأخّرنا بسبب الحدود وتراكم الخلافات السياسية وغياب عامل الاستقرار. لو كنّا بلداً طبيعياً لكنّا لزّمنا أكثر من بلوك في السنوات القليلة المقبلة”. وتقول إنّ “أيّ اكتشاف تجاري هو عامل استقرار في البلد. وهناك شركات أخرى أجنبية تنوي العمل على بعض البلوكات”.
الصورة الرسالة
ربّما هي المرّة الأولى التي يسود فيها تفاؤل بخصوص الثروة النفطية، لكنّ التفاؤل بقرب الاستثمار يسير بموازاة الأزمة السياسية التي اندلعت على خلفية الترسيم بين التيار ورئيس مجلس النواب نبيه برّي. الخلاف الممتدّ في السياسة طوال سنوات حكم عون في بعبدا وتمدّد في عهده أسبابه كثيرة ومتشعّبة، ومن بينها الأب الأصلي والراعي الرسمي لمشاورات استخراج النفط منذ انطلق كفكرة إلى لحظة إطلاق تلزيم البلوكات وترسيم الحدود.
لم تكن تلك الصورة التي جمعت رئيسَي مجلس النواب والحكومة إلى جانب وزيرَي الأشغال والطاقة مجرّد لقطة يمكن المرور عليها مرور الكرام. عبرت كرسالة متعدّدة الأهداف، أوّلها والأهمّ بلوغ الرئيسين تلك اللحظة لتاريخيّتها أوّلاً ولخلوّها من ثالث هو ميشال عون الذي أراد يوم إعلانه عن تحوّل لبنان إلى بلد نفطي أن يكون وحيداً إلا من فريق عمله، فلم يشارك أحداً في إنجاز ينسبه التيار لوزرائه من البداية حتى النهاية، أي الترسيم.
يروي وزير الطاقة السابق سيزار أبي خليل أنّ الفكرة الأولى للتنقيب انطلقت من “جبران باسيل الذي عمل على إقرار قانون موارد بترولية في المياه البحرية اللبنانية عام 2010. كانت الفكرة السائدة من قبل أنّ لبنان سيُمنع حتماً من استخراج نفطه وسط تشكيك في وجوده. أُعدّ قانون من 77 مادة وأرفق بـ27 مرسوماً تطبيقياً للقواعد والأنظمة التي ترعى الأنشطة البترولية، وذلك بعد عملية بحث معمّق في الأنظمة المماثلة، والاستعانة بمستشاريين عالميين، من بينهم فاروق القاسم الذي بنى عام 1967 قطاع البترول في النروج ورُفعت صورته في متحف البترول في ستافانغر”.
يقول أبي خليل: “حين تحوّل الأمر إلى واقع لم يعد بإمكان النواب عدم التصويت على القانون. أنجزه باسيل كمشروع قانون في الحكومة لكن تأخّر إقراره بسبب الخلاف السياسي على تمريره في مجلس الوزراء بين التيار والحريري عام 2010، وباتفاق مع الثنائي تقدّم الوزير علي حسن خليل باقتراح القانون المقدّم إلى الحكومة إلى مجلس النواب ورأس برّي شخصياً اللجان المشتركة يوم مناقشته. بقي مرسوما تقسيم المياه البحرية إلى بلوكات، وعقد الاستكشاف والإنتاج ودفتر الشروط، اللذان كانا يسمحان بإقفال دورة التراخيص التي أطلقها الوزير باسيل في 2 أيار 2013، ولم يتمّ إقرارهما في مجلس الوزراء، واستقال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يومها. يومئذٍ راهن باسيل الفريق على أنّ ميقاتي لن يستقيل على خلفيّة الخلاف الذي وقع بين أشرف ريفي وزياد بارود، وإنّما حين ترفع مراسيم النفط إلى مجلس الوزراء لإقرارها، وربح الرهان”.
برز اقتراح من برّي أن تُعرض البلوكات العشرة جميعها للتلزيم، و”قال إذا كان لدى أحدهم مبنى كامل من عشر طبقات فهل يعرض طابقين منه للبيع أم يعرضه كلّه. وفي حينه كان هناك 46 شركة مؤهّلة، بينها 12 مشغّلاً اعتذر 2 منهم عن عدم المشاركة بعد التأهّل. بقي عشرة ائتلافات تتقاسم العشرة بلوكات،وهو ما يلغي شرط المنافسة ونحصل على أسوأ الشروط للدولة اللبنانية، وكان رأي التيار تضييق العرض لزيادة الطلب تجنّباً لانخفاض حصّة الدولة. وفعليّاً لم نهمل العشرة بلوكات، بل قمنا بما يسمّى nomination round، حيث طُلب من الشركات التي تأهّلت إعطاء أصوات تفضيلية للبلوكات العشرة، والبلوكات التي تنال التصويت الأعلى، أي أوّل خمسة بلوكات تنال أكثر الأصوات التفضيلية، عُرضت في دورة التراخيص الأولى، وفي الآخر وردت عروض على بلوكين فقط وليس على كلّ البلوكات” .
ارتفع إقبال الشركات على البترول إلى 53 شركة من كبرى الشركات العالمية. كانت لهذا الإقبال دلالتان: وفرة الموادّ الهيدروكربونية في المياه اللبنانية، والثقة بالشفافيّة التي أُديرت بها دورة التراخيص.
انضمّ لبنان إلى مبادرة الشفافية بالصناعات الاستخراجية في قرار اتُّخذ في أولى جلسات مجلس الوزراء في كانون الثاني عام 2017 (سيزار أبو خليل)، وتمّ وضع كلّ التوصيات لمبادرة الشفافية بالصناعات الاستخراجية في قانون 84/2018 الذي هو قانون دعم الشفافية في قطاع البترول. “رسّخنا مبدأ الإفصاح والنشر لكلّ العقود والموادّ المتعلّقة بالنفط، أي أنّ العقد الذي سيوقَّع مع الشركات صدر بمرسوم 43/2017 الذي هو نموذج عقد الاستكشاف والإنتاج ودفتر الشروط، ومن بعد توقيع الوزير تمّ نشر المرسوم للرأي العامّ، حتى إنّ أخطاء إملائية وردت في الجريدة الرسمية في المراسيم 42 و43/2017، فاتُّخذ قرار في مجلس الوزراء لتصحيحها”.
يؤكّد أبي خليل أنّ لبنان “من الدول القليلة التي غطّت كامل مساحة مياهها البحرية بمسوحات جيوفيزيائية ثنائية وثلاثية الأبعاد، وقمنا بتحليل المسوحات وإعداد نموذج لحوض شرق المتوسط، وتكوّنت فكرة واضحة عن مكنونات قعر بحر لبنان، والمكامن التي يفوق عددها 60 مكمناً تحتوي احتمالات عالية جداً لوجود الموادّ الهيدروكربونية، واحتمالات النجاح وصلت إلى 36 في المئة، بينما تتشجّع الشركات عادة عند بلوغ 10% و12%. ولذا تشجّعت الشركات للإقبال على مياهنا البحرية، وهنا كان يأتي دور الضغوط السياسية والأزمات المختلقة لعرقلة وتأخير مسار القطاع”.
كانت المؤشّرات المباشرة لوجود الموادّ الهيدروكربونية موجودة “لأنّ لبنان استحصل على صور عبر الأقمار الصناعية لحوض المتوسط على مدّة عشر سنوات توضح البقع النفطية وتسرّبها فوق دواخين أو مسارب (chimnies) التي تصدر من بعض المكامن الموجودة في قعر البحر. وهذا يشير إلى أنّ المكمن المماثل الذي ليس له داخون أو مسرب ما يزال الهيدروكربون ضمنه لعدم وجود مسرب. وإنّ قعر البحر هو امتداد لليابسة اللبنانية حيث بعض المغاور والصخور تبيّن وجود مؤشّر مباشر لوجود موادّ هيدروكربونية. وهنا لا بدّ من الحديث عن النفط في البرّ اللبناني الذي ما يزال يحتكم إلى قانون فرنسي يعود لعام 1936، وكان آخر تطوير عليه مرسوماً اشتراعياً لتعديله قبل الحرب في نيسان 1975، ولذا كان بحاجة إلى تطوير، وقامت وزارة الطاقة بتطوير هذا القانون وإعداد آخر متطوّر ومشابه لقانون الموادّ البترولية في المياه البحرية اللبنانية (132/2010) وتقديمه إلى مجلس النواب. طُرح للنقاش في لجنة الأشغال، ثمّ توقّف بسبب الخلاف على المرجعية ومطالبة البعض بالعودة إلى مجلس النواب للاستحصال على موافقته بعد أن تتمّ دورة التراخيص ويُعلَن الفائزون ويوافق مجلس الوزراء ويوقّع وزير الطاقة. وهو ما اعتبر ضرباً لفصل السلطات ولدور مجلس النواب المراقب لعمل الحكومة. وفُهم هذا بالسياسة بأنّ أيّ مناقصات أو عقد يجب أن لا يمرّ إلا من بعد موافقة برّي مباشرة، وأنّ المجلس ممرّ إجباري لأيّ مناقصة أو عقد، وهذا ما أدّى إلى وقف هذا القانون”.
يقول أبي خليل: “المهمّ بالنسبة إلى التيار أنّ عهد الرئيس ميشال عون بدأ بالمراسيم وانتهى بالترسيم الذي كان ضرورياً لمباشرة أعمال التنقيب واستكمال أعمال الاستكشاف والإنتاج من المياه البحرية اللبنانية.
يقول بعض الخبراء إنّ أعمال التنقيب والحفر استغرقت تسع سنوات قبل أن تبدأ إسرائيل بيع ثروتها النفطية، وإنّ لبنان تلزمه المدّة ذاتها لكي يستطيع استخراج نفطه وبيعه. هذا في حال مرّ قطوع التنقيب والحفر على خير وسلام ومن دون مطبّات أمنيّة على الحدود وأصبح في لبنان طبقة سياسية مختلفة عن تلك الموجودة تستطيع أن تتعامل مع الثروة النفطية كثروة وطنية لا مكتسبات يتمّ تقاسمها فيما بينها، خاصة في ظلّ كلام بدأ يتسرّب ويتوسّع الحديث بشأنه كبقعة نفط ومفاده أنّ السياسيين النافذين بدأوا إنشاء شركات لجني أرباح هائلة على ضفاف التنقيب، وهؤلاء أنفسهم من سبق أن صادروا ثروات لبنان ومدّخراته حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. لكنّ آراء أخرى تقول إنّ لبنان بإمكانه أن يستفيد من ثروته في غضون أربع سنوات، وقد سبق أن قام بالخطوات التمهيدية على مستوى المسوحات والأبحاث، لكنّ الخشية من وقوع مخاطر طبيعية جيوسياسية بمعظمها ومن تأرجح أسعار النفط عالمياً. غير أنّ أيّ تطوّر لن يلغي الطلب على الطاقة الذي سيستمرّ على الرغم من كلّ الظروف المحيطة والمعيقة.
منى الحسن – اساس ميديا