تُعتبر قرارات الأمم المتحدة غير ذي قيمة في الشرق الأوسط. ففي هذه البقعة من العالم، لطالما استهزأت إسرائيل بعشرات القرارات التي تَطلب منها الانسحاب من الأراضي اللبنانية والفلسطينية والسورية، من دون أن يكترث أحد من المجموعة الدولية.
إلا أن قرارَ مجلس الأمن، الخميس، بالاستجابة لطلب لبنان التمديد لقوة «اليونيفيل» العاملة في جنوبه، لعام آخر، حَمَلَ في طياته مهمات جديدة غير معلَنة تتناسب مع المرحلة المستقبلية التي تُحضِّر لها أميركا للبنان، خصوصاً بعد التعديلات التي تَكَرّستْ على مهماتها والتي تعطيها الحق المبدئي بالتنقل من دون إذن مسبق ومواكبة محلية، ما يهدّد السيادة اللبنانية. فالهدف الأخير هو إنهاء «حزب الله» ووجوده العسكري.
ففي جلسة مجلس الأمن، التي أقرت التمديد للقوة الدولية مع امتناع كل من روسيا والصين عن التصويت وموافقة الدول الـ 13 الأخرى، حمّل السفراء الأميركي والإماراتي والبريطاني، مشروعَ القرار تعديلات مهمة تتمحور حول أن «اليونيفيل» لا تحتاج للتنسيق أو مواكبة الجيش اللبناني، ولا تحتاج إذناً أو إخطاراً مسبقاً بمسار تحركاتها أو مداهمتها لأماكن محدَّدة داخل منطقة عملياتها جنوب الليطاني.
مع العلم أن هذه التعديلات في جوهرها كانت أُقرت العام الماضي – ما أثار زوبعة في لبنان – إلا أن قائد «اليونيفيل» حينها شرَح للمسؤولين اللبنانيين أنه ليس في صدد وضع قواته بدائرة الخطر ولن يتحرك من دون تنسيق مسبق.
ومع ذلك، دخلت قافلة للأمم المتحدة من الكتيبة الإيرلندية إلى العاقبية بالقرب من الصرفند، وهي منطقة خارج عمليات «اليونيفيل»، في ديسمبر 2022، ما أدى إلى مقتل أحد أفرادها بعد تصدي الأهالي لها.
هذا هو واقع الأمر في لبنان الذي يمنع دخول أي آلية تابعة للأمم المتحدة إلى المناطق من دون تنسيق مسبق، لأسباب عدة غير خافية على قيادة الأمم المتحدة، وأهمها منع «اليونيفيل» من التحول «كاميرا شرعية» لإسرائيل.
وفي الأبعاد العميقة لهذا المنع، التنسيقُ المعروف بين الدول الغربية وإسرائيل على المستويات السياسية والأمنية والعسكرية منذ عقود. وتالياً فإن القوة الدولية الموجودة في لبنان تتبع سياسة وقرارات دولها ولا تَعتبر إسرائيل دولة عدوة أو مُحايِدة، بل صديقة تنسق معها على كل المستويات بما فيها الاستخباراتية.
إضافة إلى ذلك، فإن ضباط الأمم المتحدة العاملين في لبنان يقضون إجازاتهم في إسرائيل التي تدعوهم إليها مع عائلاتهم لإيجاد علاقة وطيدة بين الطرفين.
وفي السياق نفسه، فإن «اليونيفيل»، بالنسبة إلى كثير من الجنوبيين، تُعتبر قوة تعمل بمثابة «عيون لإسرائيل» التي ينشط جواسيسها في لبنان بحثاً عن مواقع القيادة التابعة لـ «حزب الله» ومخازن أسلحته كبنك أهداف لأي حرب مقبلة.
وقد ألقى الأمن اللبناني القبض على عشرات الجواسيس من جنسيات لبنانية وأجنبية يعملون لمصلحة إسرائيل في إطار مهمات التجسس على الحزب وجمْع المعلومات عنه وعن قدراته وقاداته.
أما النقطة الأهمّ خلف قرار الأمم المتحدة بإطلاق حرية تنقل أفراد «اليونيفيل»، فتتمثل في أنها في سياق تحضيرٍ يقوم به المجتمع الغربي الموالي لإسرائيل لضغطٍ إجماعي في محاولة لإقناعها بالانسحاب من المواقع اللبنانية والسورية المحتلة (عدا الجولان)، بهدف سحْب الذرائع من أمام «حزب الله» الذي يربط وجوده العسكري وتَعاظُم قواته بمبدأ تحرير الأراضي من الاحتلال.
ولهذا الهدف، فقد حَضَرَ ممثل الرئيس الأميركي جو بايدن للمهمات الخاصة عاموس هوكشتين إلى لبنان، ومن المتوقّع أن يتكرّر حضورُه مستقبلاً، في محاولةٍ لجس النبض حول مصير «حزب الله» في حال انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وترسيم الحدود البرية، خصوصاً بعد النجاح في ترسيم الحدود البحرية ونزْع فتيل الانفجار بين الحزب وإسرائيل.
ويُدْرِكُ المجتمعُ الغربي أن الانسحابَ الإسرائيلي من جميع الأراضي اللبنانية المحتلة، ليس بالأمر السهل، ولكنه غير مستحيل.
كذلك يعلم المجتمع الغربي أن «حزب الله» لن يتخلى عن سلاحه إذا انسحبت إسرائيل، إذ، من وجهة نظره، يبقى في جعبته نقاطاً مهمة هي: فرض «معادلة الردع»، ولاسيما أن الجيش اللبناني لا يملك قرار المواجهة من القادة السياسيين، وليس في مخزونه أسلحة تردع القوات الإسرائيلية عن خرْق سيادة لبنان، براً وبحراً وجواً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى «حزب الله» القضية المركزية، فلسطين، لمنْع التوطين والدفاع عن حق العودة لمئات الآلاف من اللاجئين الموجودين في المخيمات الفلسطينية في لبنان.
إلا أن الغربَ، بحسب مصادر ديبلوماسية أوروبية، يعوّل على الاختلافات داخل لبنان بما يضع «حزب الله» في مرمى الهجمات سياسياً، أو (يعوّل) على اشتباكاتٍ داخلية مسلحة لا تكلّف سوى بضعة سفن محمّلة بالسلاح وأموال أقلّ بكثير من تلك التي أُنفقت على الحرب السورية، يوم تقبل إسرائيل بالانسحاب من كامل الأراضي اللبنانية.
ولهذا، فإن السماح لقوة «اليونيفيل» بتنفيذ مهمات مستقلة تعطيها حرية التحرك، ما هو إلا مقدّمة لِما ينتظر لبنان من احتمالات تراوح بين صِدام مع هذه القوات أو صِدام داخلي أو الاحتفالات بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلة. إلا أنه من غير المتوقّع أن يحدث ذلك إذا لم تتحضّر الأجواء بانسحابٍ إسرائيلي شامل.
إنها خطوات محسوبة، خصوصاً أن الأراضي اللبنانية خصبة للنزاعات التي تُستعاد في شكل متقطع بين اللبنانيين الذين لم يصفّوا جميع حساباتهم بعد الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً – ومثال على ذلك اشتباك الكحالة الذي أوقع قتيليْن واشتباكات أخرى حصلت قبْلها في خلده – وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي جعل من قضية التعامل مع إسرائيل «وجهة نظر».
نعم إن تغيير مهمات «اليونيفيل» ليس إلا حبراً على ورق في الوقت الراهن، لكنه يحمل في طياته «مهمات» أخرى مستقبلية، تمهّد لخطوات أكبر ولزيادة عدد هذه القوة للمرحلة المقبلة على أن تتبعها أيضاً عملية تقبُّل وجود النازحين السوريين، ليصار إلى الاستفادة من «قدراتهم» ضمن خطة متكاملة. وهذا يعني أن تطورات مهمة تنتظر لبنان مستقبلاً.
الراي الكويتية