تتعاطى السلطة السياسية مع الجامعة اللبنانية وكأنها مدرسة ابتدائية، أو على الأكثر ثانوية رسمية. ليس الكلام تقليلاً من دور المدرسة التأسيسي، بل للتذكير بأن الجامعة لا يمكن التعامل مع أهلها ومكوّناتها كغيرها من المؤسسات الرسمية. فكلما أمعنت السلطة في اعتبارها مؤسسة تحت جناحها لا تكترث لوظيفتها على المستويين العلمي والأكاديمي ولدورها الجامع لأكثرية طلاب لبنان، خسرت هذه الجامعة من رصيدها الذي بات محدوداً بفعل ما أصاب بنيتها من اختلالات نتيجة الانهيار والأزمة المالية، وأيضاً بسبب التدخل في شؤونها على مدار العقود الماضية. وإذا استمرت هذه النظرة إلى الجامعة فستدرج عندئذ ضمن المؤسسات الرسمية التي تحتاج إلى دعم مالي وبدلات إنتاجية لأساتذتها، وأكثر من ذلك تحويل بعض الفتات لتتمكن من الاستمرار في التعليم.
التعامل مع الجامعة بنظرة مختلفة شرط لتصويب الأمور نحو استقامة أوضاعها. والمقصود هنا ليس التركيز على مساعدتها مالياً فحسب، بل في احتضانها كمؤسسة للتعليم العالي لها وظيفة مختلفة عن المدرسة وسائر مؤسسات الدولة. وعلى هذا الأساس، تندرج المخصصات المالية للجامعة على أن تكون كافية للقيام بدورها وتثبيت صمود أساتذتها. والأهم أيضاً أن لا يبقى النظر إلى الجامعة على أنها مكان للتنفيعات والتوظيف وتقسيمها وفق محاصصة سياسية وطائفية. ولأن الجامعة اليوم في مرحلة صعبة، لا بد من مقاربة قضاياها بطريقة ترفع الممارسات البغيضة التي أوصلتها إلى هذا الوضع، حيث يواجه رئيسها مجموعة من المعضلات ومشكلات تهدد وجودها وعليه مسؤولية كبرى في غياب مجلس الجامعة الذي علّق دوره بالتواطؤ بين إداراتها السابقة والسلطة السياسية، كما علقت وقتها كل ملفاتها وأُخذت رهينة لأهداف سياسية وحسابات ومصالح ضيّقة.
تُدار الجامعة اليوم عبر رئيسها ووزير التربية والتعليم العالي، وقد أسهم التفاهم على أولوية دعمها في توفير مظلة لاستمراريتها، بخلاف تعامل الحكومة مجتمعة ورئيسها مع الجامعة أو أقله بعض الوزراء الذين يتعاطون باستنسابية معها، حتى إن البعض منهم وغيرهم وزراء سابقون أسرّوا في غير مناسبة بأن لا حاجة للجامعة إلا بما توفره من استيعاب للطلاب الفقراء، وهم بذلك يضربون عرض الحائط بكل ما حققته الجامعة اللبنانية من إنجازات إن كان في عصرها الذهبي أو حتى في أوقات الأزمات، وهي التي تبوّأت أخيراً مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية خصوصاً بمعيار السمعة المهنية. لكن إدارة الجامعة اليوم بين رئيسها ووزير التربية وهي حكيمة، لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية في ظل الأعباء التي تحصد الكثير من دورها، فخطر الاحتضار يبقى قائماً رغم كل الجهود والمساعي المبذولة لاستقرار أوضاعها ولا سيما أمام الاستحقاقات التي تواجهها وأبرزها استقرار السنة الدراسية والحفاظ على كوادرها.
وعلى الرغم من قتامة الواقع في الجامعة، هناك فرصة لإعادة تصويب الأمور، إذا ما قررت الحكومة حماية المؤسسة وتحصينها عبر إقرار ملفاتها سريعاً واستكمال مجلسها إذا توافرت النية، وإعادة تأمين المناخ الذي ينتشلها من براثن التقاسم الحزبي والطائفي الذي أخذ مجالسها التمثيلية وأضعف أداتها النقابية. وقد يكون إقرار ملف متوازن للتفرغ مدخلاً لإنعاش الجامعة، إضافة إلى إقرار موازنة تفي بالحد الأدنى من تأمين رواتب مقبولة لأساتذتها، وتأمين مصاريفها التشغيلية للمجمّعات. والأمر ينسحب أيضاً على أهل الجامعة لتغيير مقاربتهم أو نظرتهم نحو جامعة أكاديمية للتعليم والبحوث.
الجامعة تواجه أخطاراً وهي في المقابل لديها حاجات ينبغي توفيرها. اليوم نكتشف أن قسماً كبيراً من الأساتذة المسيحيين يهجرون الجامعة، وتكاد الفروع الثانية أن تفرغ من أساتذتها، وهو ما اتضح عند إعداد ملف التفرغ الجديد بعد إنجاز الملاكات في الكليات وتحديد الحاجات. تبقى هناك فرصة متاحة لاتخاذ قرارات في مصلحة الجامعة قبل أن تحتضر ونخسر مؤسسة ذهبية رائدة…
“النهار”- ابراهيم حيدر