التّغير المناخيّ وتأثيراته على لبنان: خطر غير مسبوق

حتمًا لن تجد نفسك الآن مُحاصرًا وفي صدّد قراءة مقال أكاديميّ آخر، يتحدث عن تأثيرات التّغير المناخيّ، بحبكة تشاؤميّة، تحذيريّة، أقصى أولوياتها تبعات التغيّر على الناتج المحليّ بعد عشرين سنة من الآن، وتُنذرك أنت العربي واللّبنانيّ المُفقر، بأن ملابسك التّي تشتريها بثمنٍ توفيريّ، المصنوعة من “البوليستر”، هي العلّة الأولى لكل الفيضانات وموجات التّصحر، التّي تغزو الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا.

اليوم وفيما تتصدر الأحداث المناخيّة المُتطرفة ومستجداتها واجهة النقاشات والأخبار، في المنطقة العربيّة التّي شهدت ذروتها مؤخرًا، من فيضانات (كارثة مدينة درنة مثالاً) وموجات الحرّ والتّصحر وهطول الأمطار غير المنتظمة (في غير مواسمها)، والتّي أدّت طرديًا لمآسٍ إنسانيّة وتراجع حاد في الموارد المائيّة والطبيعيّة، فضلًا عن الحرائق في الغابات والأحراج (كما شهدناه في لبنان وسوريا)، وغيرها، تبدو الحاجة ملّحة، للحديث أكثر عن هذه الظواهر وأثرها الفعليّ على يوميات سكان هذا الشطر من العالم وتحديدًا لبنان، الذي يُقاسي التّأثيرات المباشرة للخطر المناخيّ المُحدق. وأيضًا لدحض كل تلك الشائعات والأخبار الكاذبة (التّي امتدت إلى لبنان)، والتّي تُفيد بأن هذه الظواهر هي غضبٌ إلهي محض وعامل ميتافيزيقيّ، لا حول للإنسان العاجز أمامها، ولا قوةً تستطيع ردعها.

التّغير المناخيّ في لبنان
من مشاهد الطرقات التّي تفيض بمياه الأمطار غير الموسميّة في بيروت، إلى السيارات الغارقة بالسّيل الجارف، ومحاصيل زراعيّة فَسُدت نتيجة الأمطار الفجائية والبرَد، وصولًا إلى طقسٍ شبه استوائي، يبرد حينًا فيما تضرب موجات القيظ الخانقة أحيانًا أخرى، تخوفٌ من فيضانٍ يجرف المدينة، تخوفٌ من شحّ الموارد المائيّة، تخوف على الزراعات، وعلى الثروة الطبيعيّة اللّبنانيّة، أنباء عن عواصف قاسيّة وخلّل جسيم في المناخ الذي اعتاد عليه لبنان. وهذا كله معطوف على حالة من الفزع العام، حملت “الشذوذ” المنتشر في الأرض وزر العطب المُستجدّ!

هكذا استطاعت الأحداث المناخيّة وأخيرًا أن تحظى بانتباه الشارع اللّبنانيّ وتبعده قليلًا عن شقاقه الطائفيّ والسّياسيّ، وأزمته الاقتصاديّة، وتنبهه أن الشأن البيئيّ وإهماله المزمن، بات أيضًا أزمةً أخرى قد تطغى على باقي الأزمات في حال لم يتمّ أخذها على محمل الجدّ.

فهل لبنان اليوم مُهدد بخطرٍ مناخيّ داهم، تتناسل عنه المزيد من الأزمات، التّي لا سبيل لمواجهتها؟ قد يكون من الصعب التنبؤ بمستقبلٍ قريب، تُرضي طموحات الشارع اللّبنانيّ، إذ أن الشلّل المؤسساتي العام، والعرقلة المستمرة لمسار التّنمية، قضت على قدرة لبنان على مواجهة التّحديات المناخيّة التّي حتمًا سترخي عاجلًا أم آجلًا بوطأتها على كاهل السكّان، إذ أنه من المتوقع وبحسب الدراسات المناخيّة الأخيرة، ارتفاعٌ تراكميٍّ في درجات الحرارة وإلى شحّ موارد المياه (الملوّثة أساسًا والتّي لا تصلّ إلى كافة السّكان بالتساوي)، ممّا سيؤثّر بدوره على الإنتاج الزراعيّ وعلى سُبل عيش العديد من المجتمعات الريفيّة اللّبنانيّة، في خضم النكبة الاقتصاديّة التّي ألمت أصلًا بهذه المجتمعات، أكان في البقاع الشمالي والشمال اللّبنانيّ والسهول الممتدة جنوبًا. كما وأن الارتفاع في الحرارة سيسهم في زيادة الطلب على الطاقة، التّي لن تستطيع الجهات الرسميّة توفيرها، بينما سيواجه شطر هائل من السّكان تحديات جمّة للوصول إلى مصادر طاقة مستدامة.

خطر الفيضانات
وإلى هذا الحدّ، فهل من الممكن أن يتعرض لبنان وتحديدًا المدن السّاحليّة، وضمنًا العاصمة بيروت، لمثل ما شهدناه في ليبيا؟ لا يُنكر الباحث البيئي والمناخيّ والكاتب العراقيّ خالد سليمان، أن جميع المدن المشرفة على المسطحات المائيّة، مثل بيروت، مُهددة أن تتعرض لما يشبه الفيضانات التّي حصلت في ليبيا (والتّي لا يتمّ الحديث عنها في الصحافة العربيّة والوعيّ العربيّ، كما في الصحافة العالميّة منذ عقود)، قائلاً: “وهنا لا علاقة للعقاب الإلهي، بل المهم فهم الأمور في سياقٍ بيئيّ ومناخيّ بحت، وتدارك تأخرنا عن ركب التّوجه العالميّ، للإدارة المرّنة للمدن، وتحديدًا البنى التّحتيّة، الصرف الصحيّ، والشبكات الجوفيّة ومقدرتها على مقاومة الظواهر المتطرفة مثل الفيضانات”.

مُضيفًا: “الوعيّ الرسميّ والشعبيّ في العالم العربيّ، لم يُعالج هذا الجانب البنيويّ، ولم يستجب بطريقة جيّدة للمتغيرات الحاصلة في المجال المناخيّ العالميّ، وتأهيل البنى التّحتيّة كافةً لتصير مرنة بما يكفي للاستجابة للواقع البيئي الحديث. لم نتأخر جدًا لكن يتحتم علينا المباشرة في توعيّة السكّان المحليين، وإعادة النظر في أساليبنا القديمة لتفادي المزيد من المجازر، كما حدث في ليبيا”. ويستطرد سليمان بالقول: “الارتفاع المسجل سيؤدي إلى تساقط الأمطار في مناطق، مقابل جفاف حاد في مناطق أخرى، ومن بينها دول بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المهددة بتعاقب مواسم جفاف وبتراجع مواردها المائية، بسبب تبخر المياه السّطحية وجفاف التربة الذي سيؤدي بدوره إلى ارتفاع نسب التصحر، بالإضافة إلى ارتفاع نسب حرائق الغابات”.

التّغير المناخي وتأثيراته
ونتيجةً لواقع وجود لبنان، في المنطقة المسماة باللّغة المناخيّة: المنطقة السّاخنة، فإن تغيّر المناخ، سيؤدي حتمًا لتعطيل أنماط الطقس التّقليديّة وتوافر الموارد، ما قد يدفع لبنان نحو الهوّة الكالحة التّي تحتضن جميع الدول التّي تعطلت أدوارها المحوريّة وهويتها البيئيّة الطبيعيّة، وأنواع المزروعات والإنتاج، وحتّى الأدوار الاجتماعيّة، بفعل اختلاف المواسم والفصول، كما بالتأرجح المستمر في معدلات الحرارة وارتفاع منسوب مياه البحر.


إذ تتشابك الديناميات الاجتماعيّة والسّياسيّة والتّحولات المناخيّة ببعضها البعض، وغالبًا يتمّ تجاهلها، ويُمكن اعتبار أن الضعف في التّثقيف والتوعيّة العامة لمخاطر التّغير المناخيّ، أكان بين عامة السكّان، وصناع القرار، قد جعل لبنان في مقدمة الدول المتأثرة وبصورة غير مسبوقة بهذا التّغير، وفي صدارة الدول المنكوبة مناخيًا، في المستقبل. باعتبار أن بعضًا من الدول العربيّة قد احتضنت السّياسات البيئيّة السّليمة كدول الخليج مثلًا، مستشرفةً الأزمة التّي قد تلحق بها في حال لم تقم بذلك.

أما النظر ومن عدسةٍ حقوقيّة تُراعي الجوانب العلميّة والعمليّة، لتغير المناخ، وأثره ليس فقط على الدولة ومدنها، بل على الجماعات والأفراد، المعرضين لخطر الموت في حوادث مناخيّة مُتطرفة، بات ضرورةً على المجتمع الأهلي والمدني في لبنان، أخذه بالاعتبار، والإدراك أن موارد هذا الكوكب وموارد لبنان وأهمية حمايتها، تقع أيضًا في نطاق مسؤوليتهم المباشرة والشخصيّة، في بلدٍ يموج برجال الأعمال النهمين، والسّاسة المعطوبة سياساتهم وقرارتهم، والفاسدين الطامعين بمراكمة الثروات، على حساب المناخ والطبيعة والبيئة، من دون الاكتراث لجموع المفقرين الذين سيناولون الحصّة الأكبر من الكوارث المرتقبة.

Exit mobile version