عندما كتبت في هذه الزاوية أن “حزب الله” في موقف لا يُحسد عليه لامني بعض الأصدقاء وقالوا لي: “هيدا الكلام مش وقتو هلأ”. فهذا الكلام كان قبل أن تشن المقاومة أكثر من هجوم على مواقع للعدو في مزارع شبعا المحتلة، وقبل أن يقع للحزب شهداء في القصف الإسرائيلي على الجنوب. ولكن بعد كل ما يحصل في قطاع غزة، وما يتعرّض له المدنيون من استهدافات مباشرة، وما تخطّط له إسرائيل للقطاع والضفة، لم يعد أمام “حزب الله” خيارات عدّة سوى الانغماس في حرب لا هوادة فيها ولا تراجع، أو كما يُقال “يا قاتل يا مقتول”، وإن كان مسؤولوه يميلون إلى الاعتقاد بأن عنصر المفاجأة والحرب النفسية هما من بين أهم أسباب النجاح في أي معركة أو حرب ضد العدو، وأن قلّة من هؤلاء القادة يعرفون متى تُضبط ساعة الانتقام، وهم الذين يحدّدون الزمان والمكان المناسبين للردّ على أي اعتداء غير اعتيادي قد يتعرّض له لبنان، وبالتحديد الجنوب.
الذين تواصلوا مع “حزب الله” في الساعات الأخيرة لمسوا أن ليس لديه نية بتوسيع رقعة الحرب لتشمل الجبهة الجنوبية، لكن هؤلاء فهموا أن الحزب الذي سقط له شهداء لا يسعه سوى الردّ على هذا العدوان بما يتناسب مع حجم هذه المجزرة. أما متى وكيف سيكون الردّ فهو أمر يُترك توقيته لظروف المعركة. فإذا كان الردّ الاسرائيلي على ردّ الحزب بما هو متعارف عليه، وكما كان يحصل في كل مرة كان التخاطب العسكري بين العدو والمقاومة محكوما بمعادلة “توازن الرعب” فإن لكل حادث حديث. فكرة النار هي الآن في الملعب الإسرائيلي. فإذا أراد أو بالأحرى إذا كان قادرًا على أن يوسّع رقعة الحرب الدائرة رحاها بحمم نارية تُصبّ على رؤوس المدنيين في غزة لتشمل الجنوب أولًا وكل لبنان لاحقًا، فإن الردّ سيكون بحجم يتناسب مع حجم أي اعتداء، خصوصًا أن قادة العدو يعرفون ما ستكون عليه كلفة أي حرب من هذا النوع، التي يسعون إليها من ضمن مخطّط شامل “لتغيير وجه المنطقة”.
فالردّ من قِبَل “حزب الله” حتمي، لأنه لن يغض الطرف عن سفك دماء أبنائه. لم يفعلها في الماضي، ولن يفعلها اليوم. هذه الحقيقة يعرفها العدو والصديق. وكذلك يعرف الحزب أن إسرائيل ستردّ على الردّ. وعلى طبيعة هذا الردّ ستكون ردّة الفعل، وإن كان الحزب يؤكد لجميع الذين يتواصلون معه أنه لا يزال يضرب الأخماس بالأسداس بالنسبة إلى ما يمكن أن تكون عليه نتيجة أي حرب على جميع اللبنانيين، على رغم أنه يرى أن من واجب كل عربي أن تكون له مساهمات معينة للدفاع عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذي يتعرّض لأبشع أنواع المجازر.
فأي خطوة قد يخطوها الحزب ستكون مصيرية، وسيكون لها انعكاسات وتداعيات على مستوى لبنان كله. من هنا يتأكد للمراقبين بأي ميزان يقيس “حزب الله” خطواته وقراراته. وبهذا المعنى كتبنا أنه في موقف لا يُحسد عليه، لاقتناعنا بأن الوقت ليس وقت مغامرات غير مدروسة، ولا وقت تسجيل مواقف تصدر من هنا وهناك، مع العلم أن ثمة اجماعًا لبنانيًا على دعم الصمود الفلسطيني في غزة بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، ولكنهم بالتأكيد مع تحييد لبنان عن هذا الصراع، الذي سرعان ما سينخلط فيه الحابل بالنابل.
ولأن المسؤولية تاريخية فإن أي خطوة سيكون لها تأثير مباشر على جمل التطورات المتسارعة، التي تتطلب وعيًا غير مسبوق في هذه الظرف التاريخي. وعليه فإن مستقبل لبنان القريب والبعيد سيكون رهن ما يمكن أن يتخذ بوعي وبمسؤولية لرسم ملامح هذا المستقبل، الذي يكتنفه الغموض والضبابية.