شكلت إعادة بناء الدولة على أسس حديثة ومتينة، في ظل إدارة تعتمد الشفافية والحوكمة الرشيدة، هاجساً مربكاً لدى الكثير من المهتمين بتطوير الإدارة العامة من جهة، وتحسين مشاركة القطاع الخاص في تقديم الخدمات العامة، من جهة أخرى.
مردّ الإرباك على الدوام يأتي من السقوط المتتالي لجميع الوعود التي تُقطع حول الإلتزام بالقوانين، وآليات التعاقد والتلزيم، وعدم التقيد بنصوص القوانين والقرارات الواجب تطبيقها لضمان حسن سير المرافق العامة، وإبعاد “سوسة” الفساد عنها. لم ينكفىء مرة المتربصون بالمال العام عن المحاولة، ولم ييأس المؤمنون “على قلّتهم” من مواجهتهم أيضا، والتربص بهم.
ما يحصل في ملف تلزيم “إدارة وصيانة وتشغيل مراكز المعاينة الميكانيكية” مثير للريبة والشكوك والأسئلة المباشرة حول دور وأهداف المرجعية الإدارية المعنية بمتابعة المناقصة المطروحة وتنظيمها.
تضمّن المرسوم 7577 تاريخ 8/3/2002، النظام الخاص لإجراء الكشف الميكانيكي على السيارات والمركبات والمقطورات، كشرط أساسي لدفع رسوم الميكانيك السنوية. وبما أن المرسوم أجاز لوزارة الداخلية والبلديات إجراء مناقصة عمومية لاختيار شركة تدير الملف مقابل “جعالة” تُدفع للدولة عن كل سيارة تجري المعاينة، تم اجراء مناقصة فازت بموجبها شركة “فال” بعقد استثمار مرفق المعاينة الميكانيكية لمدة 9 سنوات كان يفترض أن تنتهي عام 2012. لكن مجلس الوزراء مدد العمل لها 6 أشهر متتالية حتى حزيران 2016 عندما أجريت مناقصة جديدة فازت فيها شركة “SGS” بعقد التشغيل لفترة 10 أعوام بقيمة 440 مليون دولار، لكنها لم تتسلم ادارة القطاع على خلفية الطعن الذي تقدمت به إحدى الشركات المشاركة أمام مجلس شورى الدولة، فواصلت على اثره “فال” عملها من دون مسوّغ قانوني، وفق قاعدة “تسيير المرفق العام”.
عام 2018 أصدر مجلس شورى الدولة قراره بقبول الطعن، ولكن مجلس الوزراء لم يتحرك لتغيير الوضع الى أن أعلن وزير الداخلية والبلديات بسام المولوي إطلاق مناقصة جديدة للمعاينة الميكانيكية، في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس هيئة الشّراء العام جان العلية.
تم تحضير دفتر الشروط، وأعلن عن موعد فضّ العروض، لكن المفاجأة أتت من رئيس مجلس إدارة ومدير عام هيئة إدارة السير بالتكليف، محافظ بيروت القاضي مروان عبود، الذي أصدر قرارا بـ “إرجاء موعد جلسة التلزيم”، معللاً ذلك بـ”بغية إزالة الغموض وتأمين التنافس والمساواة بين العارضين، تطبيقاً للمادة 21 من قانون الشراء العام”.
وورد في قرار التأجيل: “إرجاء موعد جلسة التلزيم إلى موعد يعلن عنه لاحقا وفق الأصول وفور إنجاز التعديلات المطلوبة”. لماذا إلى موعد يعلن عنه لاحقا، وليس الى موعد محدد؟ وما هي التعديلات المطلوبة؟
مصدر متابع يرى أن خلف الأكمة ما يثير التساؤل، وأن الإختباء خلف تعديلات ستُجرى على دفتر الشروط، بناء على استفسارات وردت من الشركات العارضة، لا يكفي لإزالة الغبار عن التأجيل، الذي لا يحتاج الى أكثر من أسبوعين إلى ثلاثة في حده الأقصى، لإجراء التعديلات المطلوبة. وعليه فإن القطبة المخفية في التأجيل “المفتوح” لعبة صارت ممجوجة ومكشوفة، وأن أي محاولة لتفصيل دفتر الشروط على قياس شركة وعارض ومستفيد واحد، لن تمر بسلام على الساعين إليها، فالمتربصون بحقوق الدولة كما علمت “النهار” ساهرون وعيونهم يقظة.
4 عارضين طلبوا تفسيرات؟
منذ أكثر من عامين واللبنانيون يسددون رسوم الميكانيك من دون أن تخضع سياراتهم للكشف الميكانيكي، ويأتي ذلك على خلفية لجوء “فال” الى فرض رسوم على كل معاينة ميكانيكية خلال الأزمة المالية الأخيرة قُدرت بنحو 120 الف ليرة لقاء كل معاينة، وذلك من خلال لحظ مبلغ 100 الف ضمن الايصال المالي، اما الـ20 الف ليرة المتبقية فلا يتم ادراجها في الايصال المالي، ما دفع وزير الداخلية إلى إحالة الشركة على النيابة العامة التمييزية.
وقبل اعلان هيئة إدارة السير والآليات والمركبات تأجيل موعد فضّ عروض مناقصة إدارة وصيانة وتشغيل مراكز المعاينة والكشف الميكانيكي الى موعد لم تحدده، يتبين بعد الاطلاع على موقع الوزارة ان ثمة 4 عارضين طلبوا تفسيرات وتوضيحات حول دفتر الشروط، بما يعني أن ثمة 4 عارضين على الاقل سحبوا الدفتر.
رئيس هيئة الشراء العام جان العلية استغرب في اتصال مع “النهار”، التأجيل الى موعد غير معلن، لافتا الى أن “ثمة ايضاحات مطلوبة على دفتر الشروط، شأنها شأن كل المناقصات وعلى الادارة الاجابة عنها. وفي حال ارتأت أن هذه التوضيحات جوهرية ويمكن ان تؤثر على تحضير العروض، تمدد مهلة تقديم العروض اسبوعا او اسبوعين، ولكن حتما ليس لأجل يعلن عنه في حينه”. وإذ أكد “نحن كهيئة شراء عام لم نُستشر بموضوع التأجيل الى أجل يُعلن عنه في حينه، حتى أننا لا نوافق على هذه الصيغة، ولا نعتبرها صيغة مثالية”، قال: “ثمة مناقصة أعلنت وفقا للاصول، وهناك طلبات من العارضين لمزيد من الاستفسارات والايضاحات، وهذا حقهم، وعلى الجهة الشارية أن ترد عليها. وفي حال رأت أن هذه التفسيرات والتوضيحات في حاجة الى وقت للعارضين لتحضير عروضهم، تعطى مهلة اضافية لا تتعدى الاسابيع الثلاثة أو الأربعة”.
ولأن هيئة الشراء العام درست بنود دفتر الشروط بعناية وشفافية مطلقة بما يضمن حقوق المواطن، وحقوق الموظف، والدولة والملتزم، تتخوف مصادر متابعة من أن يكون وراء التأجيل قطبة مخفية يمكن ان تؤثر على المناقصة، خصوصا أن دفتر الشروط لا يتضمن اي تعقيدات، وتاليا فإن التأجيل الى موعد لم يعلن عنه أمر غير بريء ومثير الريبة، بما يوحي أن بعض المعنيين بالمناقصة يحاولون اللعب بدفتر الشروط لتصبح المناقصة مفصلة على قياس إحدى الشركات المقربة منهم. واستبعدت المصادر معرفة وزير الداخلية بهذه “الالاعيب”، وهو حتما “لن يقبل بها لشفافيته المطلقة، وكونه معروفا بأنه وزير “آدمي” الى ابعد الحدود”، مؤكدة أن “رئيس هيئة الشراء العام لن يقبل بأي تعديل لدفتر الشروط ما لم يكن موافقا عليه”، داعية الى “الوقوف بالمرصاد لأي محاولة في هذا الشأن”.
البعض برر سحب دفتر الشروط وتعديله، بأنه وردت أسئلة واستفسارات كثيرة حوله، فيما يبدو أنه تضمّن نقاطا غير واضحة بما قد يعرّض اجراء المناقصة للطعن، علما أن بعض الاسئلة تركزت على حجم التعويض في حال حصل تغير في سعر الصرف.
ووفق المعلومات، فإن وزير الداخلية يشرف شخصيا على تعديل الدفتر، بما يؤكد وفق العلية ان التعديلات ستكون شفافة. أما في حال لم يكن الوزير مطلعا على التعديلات، فإن رئيس هيئة الشراء العام وبعد الاطلاع على التعديلات، وفي حال اكتشف أنها كانت مفصلة على قياس أحد العارضين، سيتواصل مع مولوي لتزويده بكل المعلومات.
ويؤكد العلية ان لديه كامل الثقة انه بالتعاون مع وزير الداخلية لن يتم تمرير أي تعديلات مثيرة للشكوك، لافتاً الى أنه “بما ان هذه المناقصة تخضع للأخذ والرد في وسائل الاعلام فإنني حتما سأسحب دفتر الشروط عند نشره على موقع الهيئة وسأطلع عليه، وفي حال وجدت اي ثغرة سأرسل، وفق صلاحياتي، كتاب توصية الى وزارة الداخلية لعدم الأخذ بالتعديلات”.
ميزات المناقصة؟
المناقصة التي أطلقتها #وزاره الداخلية والبلديات بتاريخ 31 آب 2023 لادارة وصيانة وتشغيل مراكز المعاينة الميكانيكية الأربعة القائمة من دون استحداث المراكز الـ 13 موضوع قراري مجلس الوزراء رقم 20/2014 ورقم 83/2015، لمدة ثلاث سنوات قابله للتمديد سنتين.
ووفق المعهد اللبناني لدراسات السوق، فإنه “لأول مرة، تجري مناقصة مراكز المعاينة الميكانيكية بظروف تنافسية بما يتلاءم مع متطلبات تحريك عجلة الاقتصاد، وتشجيع مشاركة المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم وتوزيع المخاطر. ويتجلى ذلك بالاكتفاء بطلب خبرة مماثلة بموضوع الصفقة، والاكتفاء بطلب الحد الأدنى الممكن من الملاءة المالية لانطلاق المشروع (500 ألف دولار لكل مركز، مليونا دولار لمركز الحدت…)، واجراء المناقصة على أساس السعر الأدنى لكل مركز بما يسهل مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم ويوزع المخاطر بالنسبة لهيئة إدارة السير، وفصل مناقصة التشغيل والصيانة عن مناقصة البناء والتشغيل والصيانة بالنسبة للمراكز الـ 13 المستحدثة، اضافة الى استيفاء الشركات مستحقاتها من الدولة واستيفاء الدولة من المواطن مباشرة بدل المعاينة في خطة تشكل استعادة تدريجية للقطاع الى كنف الدولة، فهي التي تضع دون سواها شروط المعاينة وتحدد بدلاتها والشركة تقدم خبرة فنية في اجرائها”.
باختصار، يرى المعهد ان المناقصة الجديدة تنطوي على إيجابيات، لا تنحصر بمزاياها مقارنة مع مناقصتي عام 2002 و2016 المفصلتين على قياس شركه واحدة. وهذا يعني اعادة القطاع الى كنف الدولة اللبنانية ولو تدريجا من خلال حصر علاقة المواطن بالدولة وعلاقة الدولة بالشركة، فيما تنظيم عمليه الكشف من خلال المراكز الأربعة، لا يمنع مستقبلا اعتماد كراجات تُعطى رخصا بذلك بناء على شروط محددة، والغاء المرسوم الرقم 7577/2002 واصدار مرسوم جديد يلحظ آلية جديدة مرنة لإجراء الكشف من خلال المراكز التي تملكها الدولة والكراجات المعتمدة، والغاء قراري مجلس الوزراء 20/2014 و83/2015 وصرف النظر نهائيا عن استحداث المراكز الثلاثة عشرة التي لم يتم انشاؤها بعد”.
“النهار”- سلوى بعلبكي