هل تعيين قائد للجيش اللبناني هو مسألة مسيحية أولاً باعتبار أنّ الموقع مخصص لضابط ماروني من خلال توزيع المناصب الأمنية بين الطوائف؟ أم أنه مسألة لبنانية عامة؟ وهل يؤخذ برأي المسيحيين في هذه المسألة؟ أم يتم تجاوزهم كما يحصل في القضايا الأخرى من رئاسة الجمهورية إلى سائر المواقع وصولاً إلى التهجّم على البطريرك الماروني، وعلى الحضور المسيحي في التاريخ اللبناني، ودور الموارنة في ولادة لبنان الكبير الذي دمّره الحاقدون على هذا الدور وعلى هذا الحضور ليقدّموا البديل الذي آل إليه لبنان المدمّر والمنهار اليوم والبعيد عن روحيته وأساس قيامه كدولة وككيان مستقلّ كان له حضوره الفاعل في العالم كله؟
تُطرح مسألة قيادة الجيش اليوم مع اقتراب موعد إحالة قائده العماد جوزاف عون إلى التقاعد في 10 كانون الثاني المقبل. وبين التمديد له، أو تأجيل تسريحه، أو تعيين قائد ماروني جديد محلّه، أو رئيس أركان درزي يمكن أن يتولّى القيادة في حال الشغور، تتوالى عمليات المناورة والتلاعب بأهم موقع عسكري في الدولة اللبنانية. والأخطر في هذه المسألة أنّها تحصل بينما تتعمّم بين الطوائف حالة من التعصّب البعيد عن فكرة قيام الدولة والمؤسسات.
يحصل كل ذلك عندما تتحوّل قضية قيادة الجيش إلى قضية مسيحية فيتدخّل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ليعلن أنّه من غير المسوح إسقاط قائد الجيش مطالباً بالتمديد له. ويحصل أيضاً عندما تتولّى «القوات اللبنانية» من خلال تكتلها النيابي تقديم مشروع قانون للتمديد لقائد الجيش عبر مجلس النواب، بعدما كانت تقاطع جلسات التشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية. ويحصل أيضاً في الإتجاه المعاكس عندما يتولّى «التيار الوطني الحر» برئاسة جبران باسيل ورئيس الجمهورية السابق ميشال عون حملة ضد التمديد للقائد الحالي ومحاولة تعيين ضابط جديد في القيادة يكون موالياً لهم شخصياً مسقِطين ما كانوا يتمسّكون به وهو أن تكون من صلاحية رئيس الجمهورية اختيار قائد الجيش في بداية عهده.
ويحصل الشدّ الطائفي في موضوع قيادة الجيش بينما تنهار دولة المؤسسات أيضاً في المواقع الأخرى. فكما في الصف المسيحي لم يعد مستغرباً أن يحمل نواب من الطائفة السنية مشروع التمديد لمدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان الذي تنتهي ولايته في أيار المقبل ولا يعود هناك أي خجل في الإشارة إلى أن هذه المطالبة تقوم على خلفية رفض أن يتولّى ضابط شيعي المسؤولية محل عثمان وكأن كارثة ستحلّ على البلد والطائفة. ولا تقتصر المسألة عند هذا الحد إذ أنّها تربط بقضية أخرى وهي إحالة مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات إلى التقاعد أيضاً في شباط والتخوّف من أن يحلّ محلّه قاضٍ شيعي، أو قاضية. هذه الأمور لم تعد تُخفى وراء الكواليس ولم يعد الحديث عنها مدعاة للخجل ولم يعد من يتحجّج بها يستحي مما يفعل ويقول.
لا يقتصر الأمر على هذا الحد. مع طرح تعيين رئيس للأركان في الجيش، وهو موقع مخصّص لضابط درزي، توضع الكرة عند رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي السابق وليد جنبلاط ليختار الإسم المناسب للموقع، ويُطلب منه التعهد بأن يكفل أداء هذا الضابط في حال تولّى القيادة إذا لم تُحلّ مسألة التعيين أو تأجيل تسريح القائد الحالي. ولا يجد جنبلاط حرجاً في الإعلان عن أن «حزب الله» هو من طلب هذه الضمانة، وفي الإشارة إلى أنّ في هذا الأمر إهانة له وتشكيك بتعهده وخياره.
وما يحصل في هذه المواقع جرى مثله في حالتي المديرية العامة للأمن العام ثمّ في حاكمية مصرف لبنان. حصل مع اللواء عباس ابراهيم المدير العام السابق للأمن العام ما يحصل اليوم مع قائد الجيش العماد جوزاف عون. كان ابراهيم يتولى مسؤوليات عدة بحكم موقعه ودوره وقيل أنه من الأفضل أن يبقى في موقعه لاستكمال العمل في الملفات التي يتعاطى بها. ولكن قيل أيضاً إنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري لم يكن راضياً عليه، وأنّه بقي «يمرجح» فيه وبمسألة التمديد حتى انتهت مدة خدمته وخرج إلى التقاعد.
ولكن لم تكن توجد مشكلة وظيفية في هذه الوظيفة باعتبار أنّ آلية انتقال الموقع إلى الضابط الذي يحلّ محله كانت واضحة ولا لبس فيها. ولذلك لم يكن هناك حرج في الحديث عن الضابط الماروني الذي سيحلّ محل الضابط الشيعي. فالموقع كان في الأساس للموارنة وكان منصب المدير العام لأمن الدولة للشيعة وعندما عُيِّن اللواء جميل السيد مديرا للأمن العام على عهد الرئيس إميل لحود أعطي الكاثوليك موقع المدير العام لأمن الدولة.
في حاكمية مصرف لبنان كانت تحصل المبادلة بين الموارنة والشيعة. حكي كثيراً عن أنّ الإنهيار سيحصل بسرعة أكبر بعد انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة الذي رُبِط اسمه سنوات طويلة بالإستقرار النقدي قبل أن يصير مربوطا بحال الإنهيار. كانت مسألة خلافته واضحة من خلال النص الذي يولي هذه المسؤولية لنائبه الأول وسيم منصوري، وهو شيعي. وحكي كثيراً عن تحفّظ الثنائي الشيعي على تولّيه هذه المسؤولية حتى لا يتم تحميله مسؤولية الإنهيار. خرج رياض سلامة من مصرف لبنان ووُضِع اسمه على لائحة العقوبات التي تصدرها وزارة الخزانة الأميركية وتولى منصوري المسؤولية ويستمرّ الإنهيار ولو استقرّ سعر الدولار.
الأمر نفسه يطرح اليوم مع اقتراب موعد إحالة العماد جوزاف عون إلى التقاعد. يحكى عن تردد جنبلاط في تحمّل مخاطر أن يتولّى ضابط درزي مسؤولية القيادة في هذه المرحلة الخطيرة التي يمرّ بها لبنان، خصوصاً بعد الإشتباكات التي تحصل على طول جبهة الجنوب والدور المطلوب من الجيش اللبناني في ظلّ استمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية والوضع المتردّي الذي تمرّ به حكومة تصريف الأعمال ومجلس النواب. فمن إيجابيات قيادة العماد جوزاف عون أنّه استطاع أن يحافظ على استمرار المؤسسة العسكرية بينما تنهار المؤسسات الأخرى.
ولكن هذا الإستقرار مردّه إلى الرهان على دور هذه المؤسسة في الحفاظ على وحدة الدولة. ولكنّه استقرار غير ثابت وغير آمن لأنّه يستند إلى مقومات أخرى إذا انهارت انهارت معها المؤسسة. من هذه المقومات الدعم المادي والمعنوي الذي يتلقّاه الجيش من الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص ومن دولة قطر وهو مستمرّ قياسا إلى عاملين: الثقة بالقائد جوزاف عون، والحرص على عدم تعريض الدولة للإنهيار التام الأمني. ومن هنا تصبح مسألة خلافة عون أو بقائه في موقعه مصيرية أكثر مما كانت عليه في الأمن العام أو حاكمية مصرف لبنان أو في قوى الأمن الداخلي والنيابة العامة التمييزية.
ولكن في هذه اللعبة المأسوية التي يواجه فيها لبنان الإنهيار الشامل، يرتفع منسوب الشحن الطائفي بشكل لم يعهده اللبنانيون من قبل. حتى في خلال الحرب لم يكن هناك حديث مترافق مع التعيينات في الوظائف كما يحصل اليوم. بعد دولة الطائف وبعد 15 عاماً من الوصاية السورية ثم 18 عاماً على انتفاضة 14 آذار تتحلّل الدولة في كل وظائفها ويطغى الخطاب المذهبي والطائفي على كل ما هو وطني. ولكن ما يمكن التوقف عنده في هذا المجال هو أنّه في الأمور المتعلقة بالشيعة والدروز تبقى المسألة محصورة باختيار الثنائي الشيعي بين «أمل» و»حزب الله» في ما يخصّ المواقع الشيعية وتبقى متعلقة بما يقرره وليد جنبلاط بالنسبة إلى المواقع الدرزية.
منذ العام 1992 أمسك الرئيس بري بقرار التعيينات الشيعية عندما فرض مثلاً على مجلس القضاء الأعلى أسماء القضاة الشيعة والمناصب التي يتولّونها ولم تمرّ التشكيلات إلا بعدما أقنع وزير العدل بهيج طبارة رئيس مجلس القضاء الأعلى فيليب خيرالله بالسير بها. ومنذ انتهاء عهد الوصاية عام 2005 يتولّى بري بتفويض من «حزب الله» اختيار أسماء الوزراء الشيعة والحقائب التي يتولونها ولا يعطي الأسماء إلا قبل موعد إصدار المراسيم وأخذ الصورة التذكارية. وعندما تصل المسألة إلى المواقع المسيحية تختلف الأمور.
منذ ما بعد العام 1990 تصرّف قادة الطوائف الأخرى في ظل عهد الوصاية وبعده وكأنّ لهم الحق في اقتسام الحقوق المسيحية. ولذلك طالما أنّ تسمية رئيس مجلس النواب صارت مسألة شيعية وتسمية رئيس الحكومة مسألة سنية، قبل أن يكسر احتكارها «حزب الله» من خلال امتداداته داخل الطوائف الأخرى، وتسمية الوزراء الدروز مسألة تخصّ وليد جنبلاط، بقيت مسألة رئاسة الجمهورية خاضعة للإبتزاز حتى لو اتفق عليها كل الموارتة مع البطريركية المارونية باعتبار أن ما للمسيحيين يجب أن يشاركهم فيه الآخرون.
في ظل طغيان الخطاب المذهبي المترافق مع التعيينات يتم التعاطي مع موضوع قيادة الجيش كما تمّ التعاطي مع موضوع رئاسة الجمهورية. على رغم أن بكركي و»القوات» وسائر القوى المسيحية، باستثناء «التيار الوطني الحر»، يطالبون بالتمديد لقائد الجيش، يعمل «حزب الله» ومن معه على ابتزازهم ومحاولة فرض خياراته عليهم متلطّيا وراء باسيل. يريد عون وباسيل أن يعيِّنا قائداً للجيش وأن يطيحا بالعماد جوزاف عون.
في الأساس كان عون من اختيارهما ولكنّه لم يكن مطواعاً ولم يقبل أن يكون موظفاً عندهما، وارتكب الجريمة الكبرى عندما طُرح اسمه كأبرز المرشحين الذين يمكن التوافق عليهم ليكون رئيسا للجمهورية. ولذلك بدأت حربهما عليه منذ انتفاضة 17 تشرين 2019. ولكن من يضمن لهما أن يكون القائد الذي يختارونه أداة بيدهما وهما خارج السلطة؟ وهل يمكن أن تستعيد بكركي مع القوى المسيحية الملتفة حولها في قضية قيادة الجيش حق القرار في ما خصّ المواقع المسيحية؟ تجربة رئاسة الجمهورية لا يمكن البناء عليها، ولكن هل يمكن أن تكون هناك انتفاضة مسيحية مارونية في ما خصّ قيادة الجيش لتكون مقدمة لاستعادة المبادرة في مسألة رئاسة الجمهورية؟
إنّ انتفاضة من هذا النوع تعيد التوازن إلى الوضع الداخلي بحيث لا يعود التعرّض للبطريرك الماروني، سواء أكان اسمه يوحنا مارون أو نصرالله صفير أو بشارة الراعي، مسألة عادية.
نجم الهاشم-نداء الوطن