بعد غزة “يالطا” جديدة

حتى اليوم مرّ 45 يوماً على البركان الذي انفجر في غزة، أي ما يقارب الشهر ونصف الشهر من جنون الحرب الدائرة. ورغم ذلك ليست هنالك من مؤشرات جدية توحي بقرب انتهائها أو بأنها حققت أهداف من يقفون خلفها.

ووفق الكلام الذي نقلته صحيفة الواشنطن بوست الأميركية عن مسؤولين إسرائيليين فإنّ الهجوم البري قد يستمر لمدة ثلاثة أشهر. وما يعزّز من جدية هذا الكلام جملة معطيات، منها الفشل المتلاحق لما تردّد إعلامياً حول قرب التوصّل لصفقة تبادل الأسرى وهو ما يوحي بأن النوايا الاسرائيلية غير جدية في هذا المنحى. أضف الى ذلك، عدم حصول أي وقف لإطلاق النار أو حتى مجرد «هدنة إنسانية» ولو لساعات معدودة بسبب الرفض الاسرائيلي، لاعتبار أنّ ذلك يصب في صالح حركة حماس في الميدان. مع العلم أنّ مستشفى واحداً فقط من أصل 24 ما يزال يعمل في القسم الشمالي للقطاع. مع الاشارة هنا الى التحضيرات الجارية لمستشفيات عائمة من أوروبا، وأخرى مؤقتة عند الحدود بين غزة ومصر وهي من قطر، ولهذا معناه العميق.

لا بل فإنّ التمهيد الاسرائيلي لتوسيع دائرة الحرب باتجاه جنوب قطاع غزة قد بدأ فعلاً، إن كان ذلك إعلامياً عبر التسويق بأنّ يحيي السنوار ومحمد الضيف أصبحا في جنوب قطاع غزة وهو ما يفسّر غيابهما عن التواصل مع القطريين والوسطاء منذ حوالى الأسبوع. كذلك التمهيد السياسي من خلال ما تناوب على إعلانه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع غالنت، وأيضا التمهيد الميداني من خلال بدء تركيز الغارات جنوباً مع دعوات اسرائيلة للسكان بإخلاء مناطقهم بحجّة المحافظة على سلامتهم.

ويشجّع اسرائيل على الذهاب في هذا الاتجاه تحقيق تقدّم بَرّي في شمال ووسط القطاع رغم عدم المساس بشبكة الانفاق، وتراجع الضغط الشعبي في العواصم الغربية المؤثرة حيث جاءت ذروة التظاهرات خلال الأسبوع الذي سبق، أما يوم الجمعة الماضي فسجلت حشود أقل قياساً الى ما سبقها.

كذلك فإنّ مخاطر توسّع دائرة الحرب تراجعت رغم الاختبارات العديدة والخطيرة التي حصلت.
وبَدا أنّ موقف ايران بات أكثر وضوحاً لناحية محاذرتها الانزلاق الى أتون الحرب، وتكررت مواقف إيرانية عدة صَبّت في هذا السياق، وكان آخرها لأحد السياسيين البارزين والمعروف عنه قربه من مرشد الثورة علي خامنئي حيث حذّر من مغبّة التدخل العسكري في حرب غزة.

صحيح أنّ الهجمات على القواعد العسكرية الاميركية استمرت، لكنها بقيت وفق وصف الأوساط الأميركية تحت سقفٍ مقبول وغير خطيرة ولا تحمل أهدافاً عسكرية حقيقية، رغم أنه سجّل خلال ثلاثين يوماً 29 هجوماً في العراق و32 في سوريا وفق وزارة الدفاع الأميركية.

والأهم استمرار الصمت على مستوى الدول الكبرى، مثل روسيا والصين. ففيما الحرب في أوكرانيا سجلت بعض التراجع في حماوتها، فإنّ القمة الاميركية – الصينية، والتي عقدت في مدينة سان فرنسيسكو الأميركية، أعادت ضبط العلاقات الدولية بين الدولتين وتنظيم ملفات مصالحهما، رغم عدم تسجيل خرق كبير بينهما.
ولكل ما سبق معناه الكبير، وهو ما يؤشّر الى وجود تفاهم دولي غير معلن تجاه المتغيرات الكبرى الحاصلة في غزة.

وإذا أضفنا التحولات الكبرى التي كانت قد أصابت الشرق الأوسط من العراق الى سوريا ولبنان واليمن، وكذلك أوكرانيا، والتي أصابت أوروبا في العمق وأدت الى تبدلات جوهرية، فإنّ التاريخ يلحظ حصول مؤتمرات دولية في محطات مشابهة، فمثلاً كان لا بد من عقد مؤتمر مع نهاية الحرب العالمية الثانية بعد التحولات الكبيرة التي حصلت لتنظيم المرحلة اللاحقة والتي عُرفت بمرحلة الحرب الباردة.

ولأجل ذلك عقد المؤتمر الدولي بين موسكو ولندن وواشنطن في يالطا السوفياتية يومها، في 11 شباط 1945 لتنظيم حال السلم بعد الحرب. وشمل ذلك تقسيم ألمانيا وتقاسم النفوذ في اوروبا والعالم. والسؤال هنا، هل انّ التحولات الهائلة التي حصلت وسط حربين كبيرتين في أوكرانيا وغزة تدفعان باتجاه الذهاب الى تفاهمات دولية جديدة على غرار يالطا مثلاً، وسط تحولات هائلة أصابت الشرق الاوسط، والتبدّل الكبير الذي طرأ على التوازنات الدولية والتي كرّستها حرب أوكرانيا؟
يومها شَكّل مؤتمر يالطا تمهيداً آمناً للدخول الى مرحلة الحرب الباردة، والتي دامت لعقود، وبقيت منضبطة وفق سقفٍ صارم رغم بعض المحطات المتوترة.

وفي إشارة بليغة إضافية، فإنه قد تكون هي المرة الأولى التي يمر بها العالم باختبار اندلاع حربين كبيرتين في منطقتين رئيسيتين لإنتاج الطاقة. صحيح أنّ الأسواق توترت بعض الشيء، لكنها بقيت منضبطة تحت سقف محدد. لكن هذه المرونة ستتبدّد إذا ما قُدّر لهذا الصراع أن يخرج في لحظة مفاجئة عن السيطرة. إذ لا يجب أن ننسى دائماً أننا في الشرق الاوسط ساحة المفاجآت. وسينعكس ذلك فوراً على تدفق الطاقة، وبالتالي على الاقتصاد العالمي برمّته وتوفر الغذاء.
وفي الاستنتاجات وفق كل ما تقدّم، فإنّ الحرب في غزة ما تزال في منتصفها على ما يبدو، وأنّ هنالك أهدافاً كبرى لم تتحقق بعد، وسط صمت دولي مُعبّر. وهذا الصمت يفتح شهية التكهّن بوجود تحضيرات لتفاهمات تطال ترتيب مصالح المعادلة الدولية الجديدة، والتي اختبرت نفسها جيدا في أوكرانيا وغزة.

لذلك من الوهم الاعتقاد أنّ الاستحقاق الرئاسي في لبنان سيحصل قريباً. فخلال الأيام الماضية ومن باب اليأس ربما، ظهرت نقاشات حول إنجاز قريب للاستحقاق الرئاسي بضغط خارجي. وربط البعض الخلوة التي عقدت بين الرئيس الإيراني وولي عهد السعودية على هامش قمة الرياض بانفراج رئاسي لبناني قريب.

صحيح أن أجواء الخلوة كانت إيجابية، وأن الملف اللبناني حضر خلالها، لكن الحقيقة أنه من المبكر جدا الحديث عن حلول كبيرة، فالامور أعقد بكثير ممّا يعتقده البعض. ولأن المنطقة تنتظر نتائج حرب غزة والتحولات على الساحة الفلسطينية لتبني عليها كيفية ترتيب مصالحها، فإنه لا بد للبنان أن ينتظر بأقل الأكلاف والأوهام الممكنة. ولذلك، لا بد من تهدئة «الأنانية» السياسية لدى البعض والتي تهدد ما تبقى من المؤسسات الدستورية، وتمرير المرحلة بأقل الاكلاف، لا كما يفعله البعض اليوم مع مؤسسة الجيش لأهداف ضيقة، في وقت يلقون التشجيع الخفي من أطراف تريد ضمناً نَسف الواقع القائم والذهاب الى واقع آخر مختلف كلياً، وبالتالي تكرار خطيئة العام 1989 ولو بطريقة مختلفة.
فهل نتذكر القول المأثور: عند تغيير الدول إحفظ رأسك.

Exit mobile version