الحملة العسكرية الإسرائيلية التدميرية على قطاع غزة لا تستهدف القطاع وأهله فقط. فما قامت وما تقوم به إسرائيل من تقتيل جماعي ومن تدمير كلّي، ومن اجتثاث منهجي، يشكّل رسالة إلى كلّ من تسوّل له نفسه يوماً “مجرّد التفكير” في شنّ الحرب عليها.
في الأساس قامت إسرائيل كما تقول الأدبيات السياسية اليهودية من أجل تحقيق هدف أساسي واحد، وهو “أن لا يتعرّض اليهودي للقتل لأنّه يهودي”، كما كان يحدث في أوروبا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وعلى مدى عقود طويلة. غير أنّ العملية التي قامت خلالها حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الثاني – نوفمبر باقتحام بلدات ومستوطنات يهودية وقتل وأسرْ جنود ومواطنين إسرائيليين، أطاحت بهذا الهدف ووجّهت ضربة شديدة إلى استراتيجية الأمن الإسرائيلي التي تقوم على مقاتلة الإنسان (العربي) في أرضه بعيداً عن المدن والقرى والمستوطنات اليهودية.
قتل يهوديّ… ليهوديّته
في الحسابات الإسرائيلية فإنّ قتل يهودي داخل إسرائيل ذاتها يوجّه ضربة إلى مبرّر وجودها ويعرّض استراتيجيتها الأمنية لخطر السقوط، ويطعن بمصداقية الجيش الذي تنفق على تدريبه وتسليحه المليارات باعتباره العمود الفقري للكيان الإسرائيلي.
لقد تمكّنت عملية طوفان الأقصى من إذلال الآلة العسكرية الإسرائيلية وحطّمت في الوقت ذاته تلك الهالة التي حاولت إسرائيل إقامتها منذ عام 1948 من خلال المنظّمات الإرهابية التي شكّلتها مثل شترن والهاغاناه. وقد وصل زعماء تلك المنظمات إلى السلطة ليتمكّنوا من داخلها وباسمها من تحقيق الهدف الأسمى لهم، وهو “أن لا يتعرّض يهودي للقتل بسبب يهوديّته”. من هؤلاء الزعماء بنيامين نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي يصنّف نفسه، ويصنّفه حزبه، على أنّه أكثر رؤساء الحكومات في إسرائيل تطرّفاً وممارسةً للإرهاب ضدّ الفلسطينيين. إلا أنّ عملية طوفان الأقصى مزّقت هذه الصورة أيضاً. وكان ردّ فعل نتانياهو الذهاب إلى الحدّ الأقصى في ممارسة التدمير والقتل لاسترجاع تلك الصورة التي تمزّقت ليس تحت أقدام أهالي الضفّة والقطاع، إنّما تحت أقدام سكان المستوطنات اليهودية في الضفة وتلك المجاورة للقطاع.
فشل كلّ سياسات إسرائيل الوحشيّة
تدرك إسرائيل جيداً الآن أنّ الذين يتصدّون لاحتلالها في غزة والضفة الغربية وُلدوا بعد نكبة 1948، وحتى بعد كارثة 1967، إلا أنّها تأبى أن تدرك أنّه لا القتل العشوائي ولا الاقتلاع الجماعي ولا التدمير المنهجي يمكن أن يفكّ ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه المحتلّة، أو يحمله على التخلّي عن هويّته وحقّه.
احتلّت إسرائيل الضفة الغربية في عام 1967، إلا أنّ مقاومة الاحتلال لم تتوقّف حتى اليوم.
احتلّت إسرائيل غزة، وخرجت منها (على يد أرييل شارون)، وها هي تعود إليها بكلّ ما لديها من قوّة معزّزة باللامحدود من الدعم العسكري والاستخباراتي والمالي والسياسي الأميركي. وتمكّنت بالفعل من قتل عشرات الآلاف من أهلها. ولكن ماذا بعد؟
استهدفت إسرائيل في حربها على غزة البيوت والأطفال. لم يكن ذلك صدفة أو عشوائياً. فالأطفال الفلسطينيون بالنسبة لإسرائيل هم مقاتلو الغد. والبيوت هي مواقع الإنجاب. إنّ تجريد غزة من أطفالها يقطع طريق المستقبل أمام المقاومة. وتدمير البيوت فوق رؤوس ساكنيها يقطع الطريق أمام ولادات جديدة.
قد يبدو ذلك غريباً، لكنّ العقل الصهيوني في فلسطين قائم على ثقافة الاجتثاث. وأساس هذه الثقافة هو قتل الأطفال الفلسطينيين الذين يمثّلون المستقبل، وتدمير البيوت حيث يتكوّن أطفال المستقبل.
مع ذلك بعد عقد أو أقلّ سيتكوّن جيل جديد ليثأر لشهداء اليوم، الأمر الذي يدفع بالأمور مرّة جديدة إلى نقطة الصفر. في ضوء ذلك لا يبقى أمام إسرائيل سوى حلّ من اثنين: إمّا إبادة كلّ الشعب الفلسطيني (وهي لو تمكّنت لفعلت)، أو التفاهم مع الشعب الفلسطيني على أساس حقّه بموجب القانون الدولي بإقامة دولته المستقلّة على أرضه.
أهميّة القمّة العربيّة – الإسلاميّة
من هنا أهمية ما صدر عن القمّة الإسلامية – العربية التي عُقدت في المملكة العربية السعودية. ذلك أنّه على الرغم من أنّ هذه القمّة عُقدت وسط جرائم القتل الجماعي العشوائي التي مارستها إسرائيل في غزة، وعلى الرغم من تفلّت عصابات المستوطنين في الضفة الغربية واقتحامهم بلدات وبيوت أهالي الضفة من الفلسطينيين، فإنّ القمّة دعت إلى تسوية سياسية على قاعدة حلّ الدولتين، وهذا يعني القبول بالدولة الإسرائيلية. لكنّ الغطرسة العسكرية الإسرائيلية لم تتنبّه إلى معنى هذا الموقف المشترك للعالمين العربي والإسلامي. وهو أمر يعكس استمرار إسرائيل في الاعتماد على سياسة القوّة العسكرية لوضع العالم أمام أمر واقع جديد كما فعلت في عام 1967، ثمّ في عام 1973، وقبل ذلك في عام 1948.
لم تلجأ القمّة العربية – الإسلامية إلى سياسة ردّ الفعل على الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة. لكن على الرغم من الفظائع الوحشية التي تعرّض لها أهل القطاع على يد القوات الإسرائيلية، تمسّكت القمّة بمبدأ السلام والتسوية السياسية على قاعدة حلّ الدولتين. غير أنّ التمسّك بالرغبة في الانتقام بالقوّة وممارسة العقاب الجماعي ضدّ الشعب الفلسطيني يعرّض المبادرة السلمية للقمّة العربية – الإسلامية للضياع. وإذا ضاعت هذه المبادرة، كما ضاعت مبادرات عديدة أخرى في السابق نتيجة غطرسة القوّة التي تتمسّك بها إسرائيل، فإنّ معنى ذلك أنّ الشرق الأوسط (وليس فلسطين وإسرائيل وحدهما فقط) سوف يدخل في نفق جديد، بانتظار وميض أمل ينبثق من طوفان أقصى جديد.
محمد السماك – اساس ميديا