لم تحظَ مسودّة مرسوم مشروع القانون المتعلّق بإصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، كما أحالها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء، بالاهتمام الكافي من قبل الرأي العام، رغم أنّ هذا المسار سيحدد الأسس القانونيّة التي سيجري على أساسها إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
بمعنى آخر، ستُحدد المسودّة بعد إقرارها كمرسوم مشروع قانون في مجلس الوزراء، ثم كقانون في مجلس النوّاب، الآليّات التي سيتم اعتمادها لتصفية المصارف غير القادرة على الاستمرار، وإعادة رسملة المصارف التي يُمكن تصحيح وضعيّتها الماليّة. وهذا المسار سيتكامل مع قانون إعادة الانتظام للقطاع المالي، الذي سيحدد كيفيّة التعامل مع فجوة الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي.
وحدها جمعيّة المصارف تلقّفت المسألة فور تسرّب المسودّة، وبدأت بإعداد العدّة لصياغة كتاب سيتم توجيهه لمجلس الوزراء، للتحذير من المسودّة المطروحة وبعض المواد المقترحة فيها. الإشكاليّة الأساس في المسودّة، بالنسبة للمصارف، ترتبط بطبيعة الإجراءات القسريّة التي سيفرضها القانون على المصارف غير القادرة على الاستمرار، والتي لا تشبه التسامح المُفرط الذي نعِم به القطاع على مرّ السنوات الأربعة الماضية. وحين نتحدّث عن الإجراءات القسريّة، فنحن نشير حتمًا إلى الإجراءات التي ستطال رساميل أصحاب المصارف وأسهمهم وأعضاء مجالس الإدارة، وحتّى أموالهم الخاصّة، في حال ثبوت تورّطهم بممارسات احتياليّة خلال السنوات الخمسة التي سبقت تعثّر مصارفهم.
التعديلات في تركيبة “الهيئة المختصّة”
في كل ثنايا المسودّة، يتكرّر ذكر “الهيئة المختصّة” بإصلاح وضع المصارف، بوصفها صاحبة القرار الفصل في العديد من المسائل التي يتطرّق لها القانون. بحسب المسودّة، ستكون الهيئة المختصّة هي الهيئة المصرفيّة العليا، التي تملك أساسًا بحكم قانون النقد والتسليف صلاحيّات شبيهة، تصل إلى حد شطب ترخيص مصرف أو طلب تصفيته أو معاقبته أو طلب إجراءات تصحيحيّة محددة. إلا أنّ القانون الجديد سيبدّل من تركيبة أعضاء الهيئة المصرفيّة العليا بشكل دائم.
فتمامًا كما هو الحال الآن، سيحتفظ حاكم مصرف لبنان بعضويّته وترؤسه للهيئة، كما سيحافظ على هذه العضويّة أحد نوّاب الحاكم من اختيار المجلس المركزي، مع قاضي مارس القضاء لفترة 10 سنوات. إلا أنّ المسودّة المطروحة تُقصي من الهيئة المصرفيّة العليا، أي الهيئة المختصّة بتطبيق القانون الجديد، العضو المعيّن بناءً على اقتراح جمعيّة المصارف، كما تقصي من هذه العضويّة مدير عام وزارة الماليّة. وفي المقابل، تضيف المسودّة عضوين إلى الهيئة، هما أحد أعضاء لجنة الرقابة على المصارف، كما تختاره اللجنة، وأحد أعضاء المؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، كما يختاره مجلس إدارة المؤسسة.
المادّة السادسة من القانون، سرعان ما تبيّن الهدف من إقصاء العضو المقترح من جمعيّة المصارف، من الهيئة المختصّة. إذ من المفترض أن يتقدّم كل عضو في الهيئة بتصريح خاص يتعلّق بالاستقلاليّة والتضارب في المصالح، بما يضمن اتخاذه القرارات بتجرّد وموضوعيّة. وإذا تبيّن وجود أي علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين أحد أعضاء الهيئة وأحد المصارف التجاريّة، فعلى العضو الامتناع عن المشاركة في أي نقاش أو تصويت يُعنى بهذا المصرف.
من هذه الزاوية، يمكن فهم تعديل القانون وإبعاد جمعيّة المصارف عن اقتراح أو ترشيح أي عضو للهيئة، طالما أن التجرّد والحياد اتجاه المصارف يُفترض أن يكون أحد محددات العضويّة في الهيئة. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ الجمعيّة ستحافظ على تأثيرها في عمليّة اختيار الأعضاء، أولًا من خلال امتلاكها نصف أسهم المؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، التي ستتمثّل بعضو داخل الهيئة. وثانيًا من خلال تأثيرها داخل لجنة الرقابة على المصارف، التي تملك حق ترشيح عضو آخر في الهيئة. إذ أن جمعية المصارف تقترح أحد أعضاء لجنة الرقابة، بينما تقترح المؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع عضو آخر.
لهذا السبب، وإذا أراد مجلس الوزراء، أو المشرّعون في المجلس النيابي لاحقًا، ضمان حياد الهيئة المختصّة بشكل كامل، تجاه تأثيرات المصارف، فقد يكون من الضروري تعديل المادّة الخامسة من المسودّة، بما يضمن إقصاء ممثلي المصارف داخل مؤسسة ضمان الضمان، والعضو المقترح من قبل جمعيّة المصارف في لجنة الرقابة، عن عمليّة اختيار أعضاء الهيئة المختصّة. وهذا التعديل سيتماشى حتمًا مع روحيّة القانون، التي تستهدف الحؤول دون أي تضارب في المصالح، عند أداء الهيئة لمهامها لاحقًا.
بين “التصفية” أو “إصلاح الوضع”
الجزء الذي يثير حساسيّة المصارف اليوم، لا يرتبط بتركيبة الهيئة، بل بصلاحيّاتها والمهام التي ستقوم بها. فمسودّة القانون تستهدف في النهاية تصنيف المصارف اللبنانيّة بين مسارين متوازيين: ثمّة مصارف ستُحال إلى وضعيّة “قيد الإصلاح”، ما يفرض عليها الشروع بعمليّة إعادة رسملة تعيد ملاءتها وسيولتها وقدرتها على السداد للمودعين. وثمّة مصارف ستُحال إلى عمليّة التصفية، إذا كانت هذه العمليّة ستضمن أفضل العوائد للمودعين والدائنين في المصرف.
هكذا، حددت المسودّة بوضوح المعايير التي سيتم على أساسها هذا التصنيف، وهي: ملاءته وكفاية الأموال الخاصّة، وسيولته، وقدرته على تسديد المطلوبات عند استحقاقها، فضلًا عن قدرته على تحقيق الربحيّة بشكل مستقر ومنتظم، وقدرته على التقيّد بشروط الترخيص الممنوح له من قبل مصرف لبنان. أمّا الأهم، فهو أنّ وضع المصرف “قيد الإصلاح” لا يحول دون إمكانيّة وضعه قيد التصفية لاحقًا، إذ يمكن اتخاذ قرار بتصفية المصرف لاحقًا في حال فشل بالامتثال لمسار التصحيح المالي المُحدد له.
آليّة التصنيف تبدأ من لجنة الرقابة على المصارف، التي يعود لها إما تعيين مراقبين مستقلّين، أو الطلب من المصرف نفسه تعيين مقيّم مستقل، بعد موافقة اللجنة. مع الإشارة إلى منح المصرف هذا الحق يُعتبر تنازلًا للمصارف في مسوّدة مشروع القانون، إذ يفتح ذلك الباب أمام تضارب المصالح لدى المقيّم، في حال اختياره أو تعيينه من جانب المصرف نفسه. وفي جميع الحالات، وبناءً على هذا التقييم، وبالاستناد إلى المعايير التي تحدّثنا عنها أعلاه، تضع لجنة الرقابة على المصارف التوصية بتصفية المصرف أو وضعه “قيد الإصلاح”، فيما يعود للهيئة المختصة القرار النهائي.
الخيارات المتاحة
في حال تم وضع المصرف “قيد الإصلاح”، يحدد القانون الآليّات التي يفترض أن يتم اعتمادها لإصلاح وضع المصرف، ومنها على سبيل المثال: الإنقاذ الداخلي، أي تحويل جزء من الإلتزامات إلى أسهم في المصرف لزيادة ملاءته، وإعادة الرسملة عبر دخول مساهمين جدد، أو دمج المصرف بمؤسسات أخرى، أو بيع جزء من موجوداته إلى مصارف أخرى. وهذه الإجراءات، يُفترض أن تتم بناءً على خطّة عمل توافق عليها لجنة الرقابة على المصارف، على أن يتم اتخاذ القرار –في الهيئة المختصّة- بوضع المصرف “قيد الإصلاح”، لا قيد التصفية، بناءً على خطّة العمل هذه.
في جميع مراحل تطبيق القانون، ستملك للهيئة المختصّة صلاحيّات واسعة –وهذا ما يثير حفيظة المصارف أيضًا- ومنها مثلا: عزل بعض المديرين في المصرف، أو بعض أعضاء مجلس الإدارة، أو فرض مدير مؤقّت، أو تعيين أعضاء داخل مجلس الإدارة، أو طلب بيع بعض الأصول أو وقف بعض الخدمات التي يقدّمها المصرف. وفي حال تعيين مدير مؤقّت، سيمتلك هذا المدير صلاحيّات واسعة في إدارة المصرف، بما يمكن أن يتخطّى حتّى صلاحيّات مجلس الإدارة نفسه.
أمّا في حال وضع المصرف قيد التصفية، فمن المفترض أن يتم توزيع خسائره بناءً على تراتبيّة معيّنة، تضع المساهمين في طليعة الشرائح التي ستتحمّل خسائر المصرف، يليهم أصحاب الإلتزامات الأخرى (من غير المودعين) بحسب تدرّج معيّن. وخلال هذا المسار، الذي سيشرف عليه مصفٍ أو لجنة تصفية، يمكن ملاحقة أموال كبار المساهمين والمديرين وأعضاء مجلس الإدارة، إذا تبيّن تورّطهم في أعمال احتياليّة خلال السنوات الخمس الأخيرة، التي سبقت تعثّر المصرف.
في النتيجة، يمكن القول أن جميع هذه المواد تحمل ما يكفي من أسباب لإثارة نقمة المصارف على فكرة مشروع القانون، وخصوصًا بالنسبة إلى احتمالات عزل إدارة أي مصرف، أو فرض مسار يمكن أن ينتهي بتصفية المصارف غير القادرة على الاستمرار. أمّا الأهم، فهو أنّ المصارف تتحفّظ على المواد التي تنص على مسؤوليّة المصارف عن بعض الخسائر المترتبة على عمليّاتها مع مصرف لبنان، والتي يُفترض أن يحددها لاحقًا قانون إعادة التوازن إلى القطاع. فبالنسبة لجمعيّة المصارف، مازال الخيار المفضّل هو الابتعاد عن تحديد هذه الخسائر أو التعامل معها بشكل مباشر وصريح. إذ تتمسّك المصارف حتّى اللحظة بخطّتها الأولى، التي تصرّ على ربط الخسائر بالأموال أو الأصول العامّة، رغم علمها بعدم واقعيّة هذا الطرح، وعدم قدرته على ضمان أدنى حد من الحقوق للمودعين.
علي نور الدين – المدن