«بعدك بتذكر يا وطا الدوّار بتذكر حكايتنا». هذه الأغنية الفيروزيّة الآتية إلينا مثل النبيذ الأحمر المعتّق في الخوابي المعتّقة تذكّرنا بأنّ الأخوين رحبانيّ صنعا من لفظ «حكاية» في العاميّة اللبنانيّة قضيّة القضايا. كان اسم العمل الغنائيّ، الذي يعود إلى العام ١٩٦٣، «حكاية الإسوارة». ومغزى الحكاية هنا أنّ البشر يعيشون من الحكايات، ولا سيّما من حكاية الحبّ التي يتوارثونها جيلاً بعد جيل، والتي تصير الإسوارة رمزاً لها، حتّى إنّ حيواتهم تصبح، بمعنىً ما، تنزّهاً بين احتمالات الحكاية التي تسبغ معنًى على الحياة: «كان بفي الرمّانة في بنت محتارة/ وتضلّ متل التعبانة ولا تبوح بسرارا/وكان في بلبل عاشقها يحكيلا حكاية/بزهور يبقى يراشقها وتقلّو جايي».
لا تنتهي حكاية «الحكاية» هناك، بل ترتحل كالخمر الجديدة، الذي لم تعتق إلى اليوم، إلى محطّة جديدة اسمها «بيّاع الخواتم» (١٩٦٤). في هذه المسرحيّة السحريّة، التي تكاد تفوق أعمال الأخوين جميعها في انسيابها الميلوديّ والغنج الذي يتضوّع من جملها الموسيقيّة، يلجأ الأخوان إلى مفردات أخرى يتقاطع مفهومها مع مفهوم الحكاية: «رح نحكي قصّة ضيعة، لا القصّة صحيحة ولا الضيعة موجودة». أهمّ هذه المفردات في «بيّاع الخواتم» هو مصطلح «الخبريّة»، لكون النصّ المسرحيّ يعطي تحديداً له يحيلنا على المفاهيم الرحبانيّة التي تختبئ وراء النصّ الأدبيّ: «الأهالي بدّن حكاية، أنا خلقتلّن الحكاية (…) هيدي يا ريما مش كذبة، هيدي شغلة حدّ الكذبة، هي خبريّة، الكذبة صعبة، بس الخبريّة شعريّة، بتوعّي فيهن بطولة، بتقطف من إشيا مجهولة». فضلاً عن الترادف بين الحكاية والخبريّة، الذي يفوح من كلمات المختار (نصري شمس الدين) لابنة أخته ريما (فيروز)، ما تتّصف به الخبريّة هنا هو أنّها مقدودة من عالم الشعر، من قدرته على اجتراح عوالم جديدة ميتا-واقعيّة، لكنّها تتّصل، على الرغم من أثيريّتها، بالواقع اليوميّ، وذلك عبر قدرتها على التأثير فيه. فالناس ينفعلون بالحكاية المخترعة، يتعاطفون معها، ويسعون إلى تغيير واقعهم بفضلها. شرط هذا السرّ الكبير الذي يغلّف اللعبة الأدبيّة، والذي يقف الأخوان رحبانيّ مذهولين أمامه، هو الخيط السرّيّ الذي يربط الخيال الإنسانيّ بالحياة. فهذا الخيال، مهما تسامى ونأى، يبقى المعيوش الإنسانيّ بخبراته ومفاهيمه وأشواقه منطلقه البديهيّ ومرجعه الطبيعيّ، لكون الإنسان لا يستطيع أن يخرج من جلده.
تنزاح أشياء كثيرة في المقاربة الرحبانيّة للمسرح والنصّ الأدبيّ بعد هزيمة الجيوش العربيّة العام 1967. اللافت أنّ هذا الانزياح كان قد بدأ يشقّ طريقه قبل النكسة، وحتّى على نحو شبه متزامن مع «بيّاع الخواتم»، وذلك على خلفيّة المأساة الفلسطينيّة: «حكينا سوا الخبريّة/وعطيوني مزهريّة/ قالولي هيدي هديّة/ من الناس الناطرين» (القدس العتيقة، 1964). المزهريّة، بوصفها صورةً رمزيّة، عمرها من عمر «حكاية الإسوارة» على الأقلّ. هناك، إلى جانب التكّاية وبعد الإسوارة، هي الرمز الآخر للحبّ من حيث قدرته الجارفة على اجتراح «بيوت» جديدة وخلايا مجتمعيّة جديدة. يقال إنّ المزهريّة في «القدس العتيقة» لها حكاية تضرب جذورها في زيارة فيروز للقدس (١٩٦٤) والتقائها هناك بامرأة فلسطينيّة أهدتها مزهريّة. بيد أنّ هذه القصّة، إذا كانت صحيحة، لا تبدّل شيئاً من إيحائيّة الصورة في الشعر الرحبانيّ. في ما بعد، سنجد إمبراطور «يعيش يعيش» (١٩٧٠) يقول لهيفا (فيروز) في واحدة من لحظات يأسه «راحوا صحابي، انكسرت المزهريّة، وقعت بالليل». ولكن ماذا عن الخبريّة؟ ما هي هذه الخبريّة التي يحكيها الناس مع الأنا الشعريّة في «القدس العتيقة»؟ النصّ الشعريّ لا يترك مجالاً للشكّ. هي حكاية النكبة: «وبليل كلّو ليل/ سال الحقد بفيّة البيوت/والإيدين السودا خلّعت البواب/وصارت البيوت بلا صحاب/ بين بيوتن وبينن/ فاصل الشوك والنار/ والإيدين السودا». حيال الحكاية الفلسطينيّة المغمّسة بالاقتلاع والدم، تفقد الخبريّة الرحبانيّة بلّوريّتها وانتماءها إلى عالم الشعر، وتتحوّل إلى حكاية مغرقة في واقعيّتها ترويها فيروز في صراخ هادر، يشبه الزوبعة، كي تستيقظ الضمائر.
في عيد فيروز الذي تغلّف هذه السنة بمشهد جديد من مشاهد التراجيديا الفلسطينيّة، ما زال الصوت الصارخ صارخاً. ثمّة ضمائر استيقظت وضمائر لم تستيقظ بعد. لكنّ الصوت سيظلّ مثابراً على حكاية الخبريّة التي تتحدّى طواغيت هذا العالم وسرديّات أساطينه. ولا بدّ لهذه الحكاية من أن تنتصر ذات يوم