منذ بداية الحرب في غزة وعليها يجري تبادلٌ لإطلاق النار على الحدود اللبنانية مع إسرائيل بالصواريخ والمسيَّرات والمدفعية. الإسرائيليون يسمونها الجبهة الشمالية، واللبنانيون يسمونها الجبهة الجنوبية. ومنذ البداية أيضاً يبذل الأميركيون والفرنسيون والدوليون جهداً كبيراً لعدم توسيع الجبهة، ويقول الإسرائيليون الشيء نفسه، بل ويكرر الحزب المسلح والإيرانيون النغمة نفسها، لكنّ الاشتباكات تحدث كل يوم، ويتهم كل طرف الطرف الآخر بإشعالها.
ولذا يراقب الصحفيون والمحللون من الغرب والشرق هذا الواقع المضني، ويحلِّلون التصريحات ويراقبون الواقع على الأرض، والذي يخالف بمجمله ما يقال، وما يريده السكان على طرفي الحدود. إنّ الذي حصل حتى الآن من قصفٍ وهجمات متبادلة أدى إلى تهجير السكان على طرفي الحدود إلى مسافة خمسة عشر كيلو متراً من كل جهة، ويبلغ المهجَّرون نحو المائة وخمسين ألفاً على الطرفين أيضاً، فضلاً عن سقوط ثمانين قتيلاً من مجندي الحزب بحسب بياناته، ونحو الأربعين في الجانب الإسرائيلي حسب البيانات أيضاً.
والفَرق بين «التهجيرين» أنّ الحكومة الإسرائيلية هي التي تنظّم إخلاء مواطنيها من أماكن الاشتباكات، في حين أن اللبنانيين على الحدود متروكون لأنفسهم وخياراتهم والبؤس المتجدد الذي يحيط بهم من كل جانب. منذ عام 2006، حين شنّ الحزب المسلح هجوماً على الحدود أدى إلى حرب، ظلت الجبهة هادئة، وازدهرت المنطقة بسبب حلول القوات الدولية فيها إلى جانب الجيش اللبناني. قبل عام 2006 ما كان السوريون والحزب المسلح يسمحون للجيش بالانتشار على الحدود بحجة ترك الجبهة مفتوحة ضد العدو!
لكنّ القرار الدولي رقم 1701، الذي أوقف الحرب، نصّ على نشر الجيش اللبناني يُعاونه عشرة آلاف من القوات الدولية، على ألا يكون هناك مسلحون غيرهما في منطقة شمال الليطاني (قرابة الأربعين كيلومتراً). إنما منذ العام 2008 تشكو القوات الدولية في تقاريرها السنوية، ويشكو المراقبون الأجانب وبعض اللبنانيين، من أن المسلحين ينتشرون في سائر المنطقة المحظورة، ويحتكون أحياناً بالقوات الدولية والجيش اللبناني عندما يتم اعتراضهم.
ومع بداية حرب غزة أدخل الحزبُ المسلح إلى منطقة شمال الليطاني مسلحين آخرين من «الإخوان المسلمين» في لبنان، ومن «حماس» لبنان كما يسمونهم، وهم يشاركون في الهجمات أحياناً، ويقتل منهم الإسرائيليون، كما يقتلون من الصحفيين ومن سكان القرى الذين يهربون من مكانٍ إلى آخر، إلى أن غادرت الأكثرية منازلها نحو مناطق أخرى في البقاع وإقليم الخروب، بعد أن تلفت مواسمهم الزراعية للعجز عن جنيها بسبب الاشتباكات اليومية. الدعاية المعلنة من جانب «المقاومة» أنهم إنما يقومون بهذه العمليات التي لا تخالف «قواعد الاشتباك» (!) للتخفيف عن غزة وإشغال ثلث الجيش الإسرائيلي على جبهة الشمال.
بيد أنّ هذه الحجة لا تجد مصداقيةً على الأرض، فالغزاويون المساكين ما خفّت عليهم الحرب الإسرائيلية، بل ظلت تتفاقم يوماً بعد آخر. ومتحدثو «المقاومة» يزدادون حنقاً وثوراناً بسبب مقتل عددٍ من قياداتهم في الهجمات المتبادلة. الحكومة اللبنانية عاجزة وغائبة، كما كانت دائماً.
واللبنانيون جميعاً، وفي طليعتهم شيعة جنوب لبنان، لا رأي لهم، ولا يريد أحد منهم الحرب ولا المقاومة! وقد قال صحفي لبناني من الجنوب إنهم يأملون أن تخفف الهدنة في غزة عن لبنانيي الجنوب فتتوقف الاشتباكات، وبذلك يكون الغزاويون البؤساء هم مَن يخففون عن المدنيين اللبنانيين وليس العكس!
*نقلاً عن “الاتحاد”