تحاول فرنسا العودة مجدداً إلى لعب أدوارٍ في المنطقة عن طريق لبنان، أو الأصحّ العودة إلى المنطقة في هذا التوقيت عن طريق لبنان. وعلى الأعمّ الأغلب، تريد باريس حجز مكانٍ لها على طاولة بحث مستقبل المنطقة. لذلك، وجدت أن أفضل سبيلٍ لذلك يكمن في إعادة تنشيط دورها في لبنان عبر الملف الرئاسي، الملف نفسه الذي لم تبرع فيه طوال عام كامل من وساطتها التي بدأ مع مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا.
يسقط من بال فرنسا أن ما بعد تاريخ السابع من أكتوبر تاريخ هجوم المقاومة الفلسطينية على مستعمرات غلاف غزّة ليس كما قبله، وأن أدوارها التي لعبتها خلال العدوان، أسقط سردية أنها دولة “محايدة” صاحبة مساحة في تناول قضايا المنطقة، وإن وصف رئيسها إيمانويل ماكرون من “إسرائيل” المقاومة بالإرهاب، ودعوته إلى “تحالف دولي على غرار داعش لقتالها”، أرسى تموضعاً مختلفاً لباريس.
ليس ذلك فقط. على المستوى الداخلي اللبناني، ساد استياء عارم من طريقة مقاربة باريس للمسألة اللبنانية في ما له صلة بمشاركة الجنوب ك”جبهة إسناد” لغزّة، وشعور عارم بأن باريس تتجاوز بالنقاط حتى الدور الأميركي في حيّز “التهويل” على لبنان.
وطوال أيام العدوان لا سيّما في بدايته، تعاملت فرنسا مع نفسها ومع الآخرين من منطلق أنها طرف وتسهر على تأمين مصلحة إسرائيل، وتعمّدت تظهير ذلك وفق أساليب وأشكال عديدة. وتشير المعطيات المتوافرة، إلى أن المسؤولين الفرنسيين وسفيرهم في بيروت، كانوا ينقلون إلى العاصمة اللبنانية (وإلى حزب الله) تدريجياً وبشكلٍ متزامن، تحذيرات من مغبة دخول الحزب المعركة نصرة لغزة، كما أن جزءاً من هذه الرسائل كانت رسائل تهديد إسرائيلية.
فيما بعد، تطوّرت التحذيرات الفرنسية إلى تحميل لبنان مسؤولية ما يقوم به الحزب.
ومع توسّع المعركة هناك، واستطراداً توسّع حضور الحزب على طول الجبهة متجاهلاً كل الرسائل الفرنسية منها والأميركية، لا بل تعامل معها عبر “التجاهل التام”، حضرت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا إلى بيروت في توقيتٍ حسّاس، ليتبيّن أن زيارتها أتت بهدف إبلاغ رسائل، فرنسية أكثر من كونها إسرائيلية.
وتبيّن أنها تحمل رسائل “تهديد إضافية” إلى لبنان في حال استمر الحزب في عملياته عند الجبهة مع شمال فلسطين المحتلة. وقد بالغت المسؤولة الفرنسية في “بلاغاتها” حدود توجيه كلامٍ وُصف بـ”التهديد الحربي” حين قالت أمام المسؤولين ما مفاده “أنّ الردّ الإسرائيلي على أيّ تدخل للحزب لن يستثني أيّ بقعة، وستقوم إسرائيل بقصف لبنان من شماله إلى جنوبه”، وإنه على هؤلاء المسؤولين واجب العمل دون انجرار لبنان إلى ما أسمته “دوامة العنف التي لن يخرج منها سالماً”.
هذا الكلام تسبّب باستياء سياسي عارم في بيروت، سواء من الأطراف القريبة من باريس أو البعيدة عنها، في وقتٍ قرأ “حزب الله” الكلام بأنه نابع من وجهة نظر فرنسية “غير مقبولة”، وأنه كلام تهديدي يتجاوز التهديدات الأميركية كمّاً ونوعاً، وأن فرنسا تمارس “دوراً قذراً في الحرب، وهو دور غير مقبول”. ولو أن الحزب امتنع عن اتخاذ أي إجراء له علاقة بطبيعة العلاقة مع فرنسا، لكنه لم يتجنّب إبلاغ رسائل استياء شديدة اللهجة من قبله حيال الدور الفرنسي.
فيما بعد ومع تبلّغ فرنسا نبرة استياء عالية من الجانب اللبناني، وهي مواقف فُسّرت على أنها لا تخدم الدور الفرنسي المستقبلي في لبنان، سارعت فرنسا إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولملمة الوضع في لبنان من خلال اللجوء إلى إرسال مسؤولين فرنسيين، في العلن والخفاء. وبعد وقت، أرسلت إلى بيروت وزير الدفاع والجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو، الذي حضر وفي جعبته تشديد على دور قواته ضمن قوات “اليونيفيل” من جهة، ولمحاولة تهدئة بعض المستويات اللبنانية، وإعادة صوغ الموقف الفرنسي بطريقة مختلفة عما قدمته كولونا من جهة أخرى.
وفُهم أن باريس تحاول تصحيح الخلل الذي اعترى حراكها السابق والبقاء على مسافة واحدة، وهذا نتج عن قراءة موضوعية فرنسية للوضع في المنطقة، وأمكن للمنظّرين أن دفعوا بالحكومة الفرنسية إلى تبنّي وجهة النظر تلك. وحرص الضيف الفرنسي على التدقيق في أن الرسائل التي حملها وصلت إلى “حزب الله”، كما أنه “فحص” ردود الحزب عليها.
وتقول مصادر على اطلاع على الدور الفرنسي، إن باريس ماضية في إعادة ترتيب أوراقها لبنانياً وتصحيح الخلل. وهي قبل مدة، بعثت بوفدٍ سياسي ـ أمني إلى بيروت، وجال على أفرقاء لبنانيين بعيداً عن الإعلام، وحمل أسئلةً محددة حول دور فرنسا والنظرة إلى دورها. كذلك سعى إلى تجميع أجواء حول آخر ما توصلت إليه القضايا اللبنانية الخلافية على رأسها المسألة الرئاسية.
وفُهم من قبل متابعين للدور الفرنسي، أن باريس تسعى إلى تجميع معطيات تسهم في فهم التأثيرات التي طالت الدور الفرنسي ومواقف باريس الأخيرة، ويمكن توظيفها في تعديل أي خلل، وإن فرنسا تعمل على جميع أوراقها من أجل انطلاقةٍ أخرى لدورها في بيروت، وهو ما يتكرّس اليوم من خلال إعلان الموفد الفرنسي جان إيف ـ لودريان عزمه العودة إلى بيروت يوم الأربعاء المقبل لاستئناف وساطته الرئاسية.
عملياً، ليس هناك من ضمانات لفرنسا بعد، أو الأصحّ لم ينل الجانب الفرنسي ضمانات من أي جهة لبنانية لإنجاح دوره أو تتيح لعب الدور الذي سبق 7 أكتوبر، وأنه بإمكانها استئناف حراكها السياسي من حيث انتهى، أو أن تتمتع بدور مؤثر مشابه لما مضى. فبعيد السابع من أكتوبر الكثير من القضايا تحوّلت أو في صدد التحوّل.
وبالتالي، ستغدو زيارة موفدها إلى بيروت كزيارة إستطلاعية، يحاول من خلالها إعادة بناء أو وصل ما انقطع، والإنطلاق مرةً جديدة في رحلة البحث عن نقاط جمع بين الأقطاب. وإزاء أحداث المنطقة والدخول القطري فيها من بوابة تحقيق هدنة في غزة، لا بد من اعتبار أن الدوحة باتت لاعباً بارزاً في القضية اللبنانية.
وفي اعتقاد بعض الأوساط أن الدوحة تجاوزت حتى الحضور الفرنسي، وبات على فرنسا واقع التنسيق مع الدوحة إذا كانت تنوي إنجاح دورها.