الاعتقاد بأنّ الهدنة ستتحول الى وقف ثابت لإطلاق النار هو اعتقاد واهم. كما أنّ التوهّم بأنّ التسوية السياسية التي ستَلي موجة العنف ستكون على شاكلة سابقاتها، أي انها ستكون وفق بنود معدودة بمفاعيل محدودة، إنما هو استنتاج مبسّط وفيه الكثير من السذاجة.
فلقد كان مُحقاً رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حين قال بعد عملية «طوفان الأقصى» انّ وجه الشرق الاوسط سيتغير. والواقع أنّ الحرب التدميرية التي رمت بأوزارها في غزة جاءت لتتوج مسارا تغييريا بدأ ظهوره مع الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003 وتطور مساره مع ما عرف بثورات الربيع العربي وبلغ ذروته مع «طوفان الأقصى». كل هذه التبدلات الكبيرة التي حصلت، والتي أصابت في الصميم الخارطة التي نشأت بعد تقاسم العالم إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان لا بد من ترجمتها وفق تفاهمات جديدة تحاكي التبدلات التي استجدت على المستوى العالمي.
وانطلاقاً مما سبق فإنه من المبكر الحديث عن وقف لإطلاق النار. فثمة حرائق إضافية لا بد أن تحصل لإنضاج هذه الطبخة الكبيرة والتي من المفترض أن تنتج واقعا ثابتا للعقود المقبلة.
من هنا فإنّ النار لا بد أن تندلع من جديد في غزة. صحيح أنها لن تكون وفق الوتيرة السابقة، لكنها ستكون مؤذية بشكل كاف ما سيسمح برسم المعادلة المطلوبة. والأهم المخاوف المرتفعة من «الشهية» الاسرائيلية لإحداث تغييرات جوهرية في الضفة الغربية. وما حصل في جنين يشكل مؤشرا مُبكرا للخطر المتوقع.
فمن جهة ثمة اتفاق اسرائيلي على كافة المستويات في مواقع القرار حول ضرورة استغلال هذه الظروف التي تجمّعت، والسعي لدفع الامور باتجاه إحداث تحولات جغرافية وسياسية جذرية. أضِف الى ذلك أن نتنياهو ومعه التركيبة الحكومية المتطرفة يخشون إنهاء الحرب كي لا تفتح أمامهم قاعات المحاسبة والمحاكمة. فعلى الاقل يبقى الافضل الاستمرار في أتون الحرب سعياً «لإنجازات» ما. أي استمرار دورة العنف والعمل لطرد الفلسطينيين. صحيح أن اسرائيل فشلت بذلك حتى الآن في غزة، لكن كيف يمكن للفلسطينيين العودة للعيش في غزة حتى لو انتهت الحرب الآن، فيما مقومات الحياة معدومة تماما، ولا وجود للجهة التي ستتولى مهمة تمويل إعادة الاعمار والمقدرة بحوالى مئة مليار دولار أميركي.
المهم أن آخر استطلاعات الرأي في اسرائيل والتي نشرتها صحيفة معاريف أظهرت الوضع المزري، ليس فقط لنتنياهو بل أيضا لكافة أطراف الإئتلاف الحكومي اليميني.
ففيما بلغ تأييد بيني غانتس كخيار أنسب لتولّي رئاسة الحكومة 52% نال نتنياهو فقط 27%. أما الإئتلاف الحكومي اليميني فنال 41 مقعدا فقط في مقابل 79 مقعدا للأحزاب المعارضة. وعلى سبيل المثال فإنّ حزب الصهيونية الدينية لم ينجح بتجاوز نسبة الحسم.
ولأنه من البديهي الاعتقاد بأن إنهاء حالة الحرب سيعني فتح ابواب قاعات المساءلة والمحاكمة، وأيضا الذهاب الى انتخابات جديدة، لذلك من الافضل للحكومة الاسرائيلية الاستمرار في حربها وفتح جبهات جديدة مثل الضفة، سعياً «لإنجازات» يمكنها التخفيف من مستوى الغضب الشعبي.
والى جانب الشهية الاسرائيلية باتجاه الضفة هنالك من يسعى لإنهاء المعادلة الميدانية الحالية القائمة في جنوب لبنان والذهاب لإنتاج واقع آخر.
لكن هذه الورشة الاسرائيلية لا بد أن تترافق مع تفاهمات أوسع تشمل كل المنطقة. ولذلك ثمة من يعتقد بوجود ركائز أربع للتفاهمات المطلوبة، وهي اضافة الى اسرائيل: الولايات المتحده الاميركية وإيران والسعودية وقطر.
الواضح أن التواصل الأميركي مع إيران يحصل عبر الوسيط الكتوم سلطنة عمان. وكانت حركة وزير الخارجية الايراني لافتة في عواصم المنطقة. لا بل كانت زيارته الى بيروت معبّرة، والتي تزامنت مع زيارة موفد الرئيس الأميركي آموس هوكستين الى اسرائيل. وكان المثير للانتباه استخدام الرجلين خطابا واحدا ولو بأساليب مختلفة.
كذلك تلك الحركة القطرية الناشطة والتي طالت اسرائيل، في وقت يجري إيلاء الجناح السياسي لحركة حماس والموجود في الدوحة دورا متزايدا.
قطر تحركت باتجاه بيروت أيضا، حيث زار موفدها «أبو فهد» بعيداً عن الاعلام كما درجت عادته العديد من المسؤولين والجهات الحزبية، والتي كان أبرزها هذه المرة قريبون من الرئيس نبيه بري.
والحركة القطرية قد تكون أثارت باريس التي تحركت بدورها وأرسلت موفدها جان إيف لودريان. ولكن هذه الحركة المتسارعة تفتح الشهية للتساؤل ما إذا كان هنالك ما هو أبعد وسط الورشة المفتوحة في المنطقة.
ففي لبنان إعادة وضع ملف القرار 1701 على الطاولة. وهنا من المفيد استعادة قرار التجديد لليونيفل في جنوب لبنان قبل أشهر معدودة. يومها جرى اعتماد صيغة عارضها «حزب الله»، والأهم تمريرها من قبل الصين وروسيا.
ويبدو أن الظروف أصبحت أكثر ملاءمة لتطبيق هذه الصيغة.
وكان البعض قد وجد في استهداف نجل رئيس كتلة «حزب الله» النيابية ومعه كوادر رفيعة من قوة النخبة والمعروفة بالرضوان في غرفة العمليات، ما يشبه الرسالة المرمّزة. والسؤال هو ما إذا كانت اسرائيل قد باشرت في ترتيب المسرح اللبناني ليأتي مكمّلاً لما تسعى اليه في غزة والضفة؟
وتلك الاستهدافات الحوثية لسفن مملوكة من اسرائيليين في الشريان المائي الأهم على مستوى التجارة العالمية، ألا تحمل رسائل أبعد من اسرائيل؟
وثمة جانب آخر لا يقل خطورة باشرت العواصم الغربية رصده، وهو المتعلق بالتنظيمات الاصولية المتطرفة والتي استمدت شحنة انتعاش ونشاط جرّاء حرب غزة. ووفق اوساط مطلعة فإنّ حركة التواصل بين هذه المجموعات عبر الانترنت قد ازدادت بشكل كبير خلال الأسابيع القليلة الماضية ما يستوجب التنبه لاحتمال تفعيل نشاطها على المستويين العالمي والشرق أوسطي.
باختصار انّ الهدنة القائمة قد لا تلائم ما هو مطلوب من المرحلة المقبلة، ما يدفع للاعتقاد بأن لهيب النار سيُعاود ارتفاعه من جديد ليطال هذه المرة مناطق جديدة وربما بأشكال جديدة.