بدأت مؤشرات الحرب في غزة تميل أكثر فأكثر نحو ترجيح فرضية استمرار القتال لبضعة اشهر، بما يعني انّ الرهانات على انتهاء الحرب قريباً باتت في غير محلها، وصار لزاماً على السلطات اللبنانية اتخاذ إجراءات تتماهى مع احتمال امتداد الوضع القائم حالياً حتى منتصف العام 2024.
منذ ان اندلعت الحرب في السابع من تشرين الاول في غزة، وتلاها بدء تحريك جبهة الجنوب في الثامن منه، تبدّل المشهد الاقتصادي في البلد، وساد جمود قاتل معظم القطاعات. في الموازاة، جمّدت المؤسسات الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي، نشاطاتها. كما أوقفت بلومبرغ، التي كانت تتحضّر للقدوم الى السوق اللبناني، تحركاتها في هذا الاتجاه.
اليوم، بدأت تبرز مؤشرات تساعد على الاعتقاد انه في الامكان التكيُّف النسبي مع الوضع القائم، لتخفيف الاضرار الناتجة عن تداعيات استمرار الحرب، وانخراط جزء من لبنان الجنوبي فيها. ومن هذه المؤشرات حركة قدوم اللبنانيين خلال فترة الاعياد من الخارج، بما يؤكد ان مرحلة من التأقلم بدأت تتكوّن، قائمة على نظرية ان الحرب التي اندلعت قبل شهرين ونصف تقريباً، لن تتطوّر اكثر على المستوى اللبناني، وستبقى محصورة في الاطار المرسوم لها.
هذا الواقع يستدعي من السلطات التنفيذية والتشريعية اتخاذ اجراءات استثنائية تكون بمثابة تحضيرات لفترة ما بعد الحرب، ومن أهمها:
اولاً – الانتهاء من ملف خطة التعافي الشاملة، على أن تضمّ، وبالتتابع الزمني والمنهجي، معالجة ازمة الانتظام المالي في القطاع العام من خلال تحديد الدولة لموقفها من ديونها والتزاماتها تجاه مصرفها المركزي، تحديد مصير الودائع وكيفية اعادتها الى اصحابها، اعادة الانتظام الى العمل المصرفي. وبالمناسبة، قد يكون ردّ قانون الكابيتال كونترول الى الحكومة هذه المرة يقع في موقعه الصحيح، لأن مفاعيل هذا القانون كانت مهمة في بداية الأزمة، لأنه بمثابة دَوس على المكابح لوقف السيارة ومحاولة منع وقوع الحادث، او تخفيف السرعة لتقليص الاضرار في حال وقع الارتطام. اما اليوم، وبعد حصول الارتطام، فإنّ وظيفة الكابيتال كونترول صارت مختلفة عقب مرور 4 سنوات ونيف على الانهيار، وصار يُستحسن تكييف مضمون القانون مع الخطة الشاملة، لكي يكون واقعياً وقابلاً للتنفيذ.
ثانياً – اعادة فتح التواصل مع صندوق النقد الدولي للاطلاع على امكانية استئناف العمل في الملفات التحضيرية للاتفاق، او تلك التي يمكن انجازها رغم استمرار الحرب في غزة وجزء من الجنوب. صحيح انّ الحكومة في الوضع القائم لن تستطيع إقناع الصندوق بإعادة موظفيه الى بيروت وفتح مكاتبه للعمل بشكل طبيعي، لكنها قد تنجح في إقناع ادارة الصندوق باستكمال انجاز ملفات يمكن انجازها عن بُعد (on line) ومن ضمنها على سبيل المثال، تقرير البند الرابع، أو استكمال دراسات لها علاقة بالحوكمة والشفافية، مثل تلك التي أصبحت شبه جاهزة لدى الصندوق، والتي تتناول قطاع الكهرباء. وسبق للصندوق ان تابع الدعم التقني للبنان عن بعد، بما يعني انفتاحه على العمل بهذا الاسلوب في مرحلة انتظار انتهاء الحرب.
ثالثاً – مواصلة العمل عن بُعد أيضاً مع بلومبرغ لانجاز التدريبات والاجراءات اللوجستية لبدء العمل في السوق اللبناني مطلع العام المقبل.
رابعاً – إقرار موازنة 2024 بعد الانتهاء من تشذيبها وتنقيتها من الشوائب، لأنها جزء من السلة المطلوبة لاحقاً في لائحة «الاصلاحات»، كما انها ضرورية لتحاشي فوضى الانفاق وفق القاعدة الاثني عشرية، وعلى اساس موازنة 2022، والتي أصبح الفارق شاسعاً بين الارقام الواردة فيها وبين حاجات الانفاق في العام المقبل.
تبقى بعض المسائل الاخرى، والتي كان يُفترض ان تواكب الخطة الشاملة، في حاجة الى مزيد من النقاشات والدرس، لتحاشي القيام بخطوة ناقصة، ومنها على سبيل المثال، توحيد وتحرير سعر الصرف. ورغم الثبات في سعر صرف الليرة حتى الآن، ورغم ان بعض الاصوات باتت تطالب بخفض اضافي في سعر الدولار، معتبرة انّ الظرف يسمح بذلك، إلا ان هذا النوع من التفاؤل قد ينطوي على تسرّع غير مُستحَب. وبالتالي، ورغم ان مصرف لبنان يقول انه سيعمد الى تحرير سعر الصرف بدءا من مطلع العام 2024، قد يكون من الافضل التريّث في هذا الموضوع، واتخاذ المزيد من الخطوات التمهيدية، بانتظار ان تصبح الظروف مؤاتية اكثر للاقدام على هذه الخطوة، لأن مخاطر تعرُّض الليرة الى الضغط، وعودة الدولار الى الارتفاع قائمة رغم كل المظاهر المطمئنة السائدة اليوم.
في النتيجة، ينبغي ان تستفيد «الدولة» من مرحلة الجمود المرتبط بالحرب، لتحضير الملفات والأرضية للانطلاق نحو التعافي، فورَ سكوت المدفع.
الجمهورية