خلافاتٌ سياسيّة تنسف قانوناً مهمّاً

دخل قانون استقلالية السلطة القضائية في لبنان بغيبوبة طويلة، جرّاء الخلافات السياسية المستفحلة حوله، وطموح كلّ فريق بأن تصبح تركيبة القضاء على قياس رغباته وبما يحقق طموحاته في السلطة. واستدعى الصراع عليه، مسارعة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى سحبه من المجلس النيابي، بعد أن كان مطروحاً على جدول أعمال الجلسة التشريعية الأخيرة، لإعادة درسه بدقّة وليكون لوزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى رأي مؤثر فيه، إلّا أن مصدراً سياسياً بارزاً نعى هذا القانون مكتفياً بالقول: «العوض بسلامتكم»؛ في إشارة إلى أنه لن يبصر النور.

ومنذ عام 2017 تتقاذف القوى السياسية هذا القانون، ويسعى كلّ طرف سياسي إلى وضع إدخال تعديلات عليه ما أخّر إقراره حتى الآن، وأوضح سياسي بارز مطلع على المداولات المتعلّقة بهذا القانون، أن «سحبه من قبل رئيس الحكومة مجدداً، سببه أن وزارة العدل ومجلس القضاء لم يطلعا على صيغته النهائية».

وكشف لـ«الشرق الأوسط» أن «البعض يريد إقرار هذا القانون بطريقة بـ(التهريب)، خصوصاً أن هناك معلومات تفيد بأن القانون أحيل على الهيئة العامة حتى من دون إطلاع لجنة الإدارة والعدل على تفاصيله». وقال: «النص واضح، إذ إن المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي، تشدد على أن أي تشريع يخصّ القضاء يجب إشراك مجلس القضاء الأعلى بمناقشته».

وتضاربت آراء القوى السياسية حول الصيغة المثالية لقانون استقلالية القضاء، وتفاوتت بين من يريد انتخاب مجلس القضاء الأعلى بأعضائه العشرة من قبل القضاة كافة، ومن يقترح انتخاب تسعة أعضاء على أن يعيّن رئيس مجلس القضاء وحده من قبل الحكومة. ولمح المصدر إلى أنه «نتيجة هذه التجاذبات طالب رئيس مجلس النواب نبيه برّي بأن يكون المدعي العام المالي (شيعي) عضواً حكمياً في مجلس القضاء، أسوة بالثلاثة الحكميين رئيس مجلس القضاء (ماروني) النائب العام التمييزي ورئيس التفتيش القضائي (سنة)». وعمّا إذا كان بالإمكان الاتفاق على صيغة محددة تنقذ القانون من التجاذبات السياسية، ردّ المصدر قائلاً: «العوض بسلامتكم».

وتحت عنوان «استقلالية القضاء» معنوياً ومالياً، نفّذ قضاة لبنان منذ عام 2017 إضرابات واعتكافات عن العمل لأربع مرّات متتالية، كان آخرها الاعتكاف الذي بدأ منتصف عام 2022 واستمرّ حتى بداية عام 2023، بالإضافة إلى المطالبة بتحسين الأوضاع المادية والتقديمات الاستشفائية والتعليمية للقضاة وعائلاتهم إثر الأزمة الاقتصادية، لكن بقيت حتى الآن بلا جدوى.

وأشار وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري الخوري، إلى أنه سبق له «وقدّم ملاحظاته على اقتراح القانون بالاشتراك مع مجلس القضاء الأعلى، وبعد نقاش مستفيض مع الاتحاد الأوروبي». وقال الخوري في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «تفاجأت بأن لجنة الإدارة والعدل أحالت الاقتراح على الهيئة العامة للمجلس النيابي من دون تضمينه ملاحظاتنا، ومن دون أن يسمح لنا بالدفاع عن موقفنا». وأضاف وزير العدل: «بصراحة أنا لم أطلب سحب الاقتراح من الهيئة العامة في الجلسة الأخيرة، لأننا كفريق سياسي (التيار الوطني الحر) نقاطع جلسات التشريع، لكن رئيس الحكومة استردّه مجدداً، لكونه يتضمن تعديلات تتعارض مع الملاحظات التي وضعتها مع مجلس القضاء الأعلى والتي نصرّ عليها».

ويتضمّن مشروع استقلالية القضاء، تمكين القضاة من انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى العشرة بمن فيهم رئيس مجلس القضاء، ما يجعل السلطة القضائية بعيدة عن تأثير السلطة السياسية في التعيينات والمناقلات. إلّا أن وزير العدل لفت إلى أن ملاحظاته «ارتأت انتخاب أربعة أعضاء، بالإضافة إلى الثلاثة الحكميين (رئيس مجلس القضاء الأعلى والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي، الذين يعيّنهم مجلس الوزراء)، ثم يقوم الأعضاء السبعة بترشيح أسماء ستّة قضاة ممن يتمتعون بالكفاءة والخبرة، فيقوم مجلس الوزراء باختيار ثلاثة منهم يعينون بمرسوم». وشدد الوزير هنري الخوري على أن «اختيار مجلس القضاء بهذه الطريقة يجعل منه مجلساً مثالياً، وتصبح لديه الحريّة الأوسع في إجراء تشكيلات قضائية مثاليّة، وأكثر بعداً عن التأثير السياسي».

ويضع «نادي قضاة لبنان» المؤلف من أكثر من 150 قاضياً نفسه في قلب معركة استقلالية القضاء، ومنذ نشأته قدّم هذا المطلب على كلّ المكاسب المادية والمعنوية الأخرى، ورأى أحد أعضاء النادي، أن «الصراع القائم على القانون يقدّم الدليل القاطع على أن السلطة السياسية لن تعترف بالقضاء بوصفه سلطة مستقلّة، بل تريد إبقاءه كياناً طيّعاً للتحكّم به». وإذ أثنى على إعادة سحب القانون من البرلمان لإدخال تعديلات جوهرية عليه، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن «أهل السلطة يرفضون منذ سنوات كلّ الصيغ المطروحة التي تحرر القضاء من القيود السياسية، بدليل أنهم رفضوا الملاحظات التي وضعتها لجنة قانونية متخصصة في الاتحاد الأوروبي». وقال عضو نادي القضاة: «سنبقى متمسكين بانتخاب مجلس القضاء بالكامل، وأن تتمتع السلطة القضائية باستقلالية مالية ومعنوية، وألا تبقى التشكيلات القضائية أسيرة مرسوم يوقعه وزراء العدل والدفاع والمال ورئيسا الحكومة والجمهورية».

 يوسف دياب -“الشرق الأوسط”

Exit mobile version