واشنطن “غير مرتاحة” لميقاتي
ليس على أجندة الولايات المتحدة أي بند يتعلق بإجراء تعديلات على سياساتها المتّبعة إزاء بعض الدول وإن كانت توحي بذلك شكلاً. نظرة التكبّر والدونية لأوطانٍ كلبنان تمثل أساساً لتعامل واشنطن، ويبدو أن هذا النمط سيبقى سارياً، سواء تغيّرت سفيرة معتمدة في بيروت، أو وزير معنيّ بالشأن اللبناني، أو مستشار أو حتى رئيس.
لاختبار نوعية السفيرة الأميركية الجديدة ليزا جونسون (أو أي سفيرة)، لا داعي لانتظار 100 يوم. يكفي التحقيق والتدقيق في جدول أعمال وبرنامج بعض الزيارات القليلة التي أتمّتها منذ حضورها، لنجد أن الطابع الغالب هو تقديم النصائح الملفوفة بنمطٍ من التهديد، أو التعبير عن استياءٍ من موقف ورد عن لسان هذا المسؤول، أو المعاتبة على موقفٍ ورد على لسان آخر، أو حتى الإعتراض على بعض العبارات التي ترد في البيانات، أو حتى خلال الجلسات الرسمية، وهو حال ما نُقل من قبل السفيرة حديثة العهد إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، خلال زيارتها الأولى إليه منذ أيام، والتي طرحت الكثير من الإستفسارات والتساؤلات حيال الدوافع التي أملت عليه ربط تطورات المعركة في جنوب لبنان مع الحرب الجارية على غزة، ومطالبته بوقف إطلاق النار في القطاع ليبدأ البحث في وضعية الجنوب، وأنه بذلك يتموضع إلى جانب “حزب الله”. وهي على ما يبدو أشارت إليه بطريقة ذكية حول ضرورة الإقلاع عن ذلك أو إصدار توضيح!
في الواقع، كانت فكرة إصدار توضيح مطروحة على رئيس حكومة تصريف الأعمال، الذي كان ذاهباً صوبها بعد كل الجلبة التي أحدثها تصريحه. لكن وفجأة تحول موقف “ميقاتي” صوب تجاهل كل الإعتراضات، ربما بناءً على نصيحة وردت من طرفٍ محايد، وسرعان ما أقلع عن فكرة إصدار التوضيح، إنما وعلى العكس ذهب خلال اجتماعاته، ليس إلى توضيح أسباب موقفه وقلقه وإنما تفسيرها من وجهة نظر وطنية.
عملياً، لقد بات يلاحظ خلال الفترة الماضية، أن ميقاتي يتحرر (أو تحرّر) من الكثير من الخيوط التي كانت تربطه. وقد بدا على نحوٍ واضح أن رئيس الحكومة رفع من قدرة تنسيقه مع الحزب كمقاومة إلى أعلى درجة، لا سيّما بعد بدء المواجهات في الجنوب. وقياساً على تجارب كانت تحصل، مثّلت خطوة ميقاتي محل إشادة من جانب قوى كثيرة، وجاءت لتعبّر عن روحية التعاون خلال المخاطر بين أركان الدولة على اختلاف توجهاتهم السياسية.
متجاهلاً الأسماء، وزع الحزب تقديره حيال موقف ميقاتي “من مقام الحرص”، دون أن يوحي أنه يقدم أو في صدد تقديم أثمان للرجل، ودون أن يترك مجالاً لتفسير تقديره على أنه يأتي في هذا السياق. ومن يعلم عقلية الحزب وكيف يفكّر، لا يصعب عليه الإستنتاج أن تقدير الحزب مرده إلى “تجربة مرّة” واجهها وعاشها مع حكومة فؤاد السنيورة أثناء وخلال وبعد حرب تموز 2006 وما تزال عالقة في أدبياته ونفسه. وإن خرج من تأثيراتها، لكنه لم يخرج من الخشية الدائمة حيال معاودة تفعيلها وفق صيغة معينة.
على أي حال، يصيب موقف ميقاتي كثراً ومنهم واشنطن بانزعاجٍ شديد، لما يمثّله داخل السلطة، المفسّر فيها على أنه الأعلى موقعاً بين الأركان والقابض على توقيع الرئيس. وليس سراً أن الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين، لمس “تشدداً” لدى ميقاتي خلال بحثهما سوياً حول الصيغة الأمثل لوقف النار في الجنوب. وقد لاحظ هوكشتين أن ميقاتي وإن يوحي ببراغماتية خارج القاعات، لكنه حين وقف أمام عبارات ومفردات إختزنت تهديدات أو تلميحات بتهديدات من جانب هوكشتين من أن “إسرائيل” في وارد فتح معركة، عبّر عن مواقف شديدة تتضمن رفضاً للتهديد أولاً وللإعتداء على لبنان ثانياً. وقد أعاد أمام هوكشتين التلميح إلى نظرية “وقف النار في غزة يؤدي إلى وقفٍ لإطلاق النار في لبنان”.
على الأرجح لم تسرّ هذه المواقف الولايات المتحدة، كما لا تسرّها مواقف النائب السابق وليد جنبلاط، وأحياناً قائد الجيش العماد جوزاف عون الرافض توريط الجيش في المعركة، ومواقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، والكثير من الشخصيات التي ليس بالضرورة انها حليفة للحزب، إنما تقرأ المشهد من مقتضيات المصلحة الوطنية.
من هنا أتى تحذير السفيرة الأميركية الجديدة، من زاوية النصح والإيحاء بفتح أفقٍ للنقاش، لكن عملياً، مثّل تعبيراً واضحاً عن سياسات واشنطن المتّبعة، وأن السفيرة الجديدة من حيث المضمون، لا تختلف عن سلفتها دوروثي شيا، وأن الإستثناء يبقى في الشكل، إذ لم تتعوّد جونسون بعد على “الستايل اللبناني”، ولن يطول الأمر حتى تتحول إلى نسخة مطورة من دوروثي شيا، أو حتى جيفري فيلتمان، أو ديفيد ساتيرفيلد أو حتى ديفيد شينكر!