توقفت أوساط سياسية مراقبة طويلًا عند مدلولات البيان الصادر عن المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وفيه ردّ مباشر على منتقدي المواقف التي يتخذها حيال الحرب الضروس التي تشنّها إسرائيل منذ أكثر من مئة يوم ضد قطاع غزة، فاعتبرت أن ما يقوم به رئيس الحكومة نجيب ميقاتي هو السير بين النقاط الساخنة والحساسة، التي قد تلهب الساحة الداخلية أكثر مما هي ملتهبة، وقد تؤثّر سلبًا على المساعي المبذولة من أجل تجنيب لبنان تجرّع كأسٍ أمرّ من العلقم، وهو بالكاد يستطيع أن يسيّر أموره اليومية بالحدّ الأدنى المطلوب في مثل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها، إذ لا يطلع صباح إلاّ ويواجه اللبنانيون مشكلة جديدة لم تكن لتخطر على بال أحد، فتُضاف إلى هذا الكمّ الهائل من المشاكل التي يعاني منها كل مواطن أينما كان، باستثناء أولئك الذين “لا شغلة لهم ولا عمل” سوى الانتقاد لمجرد الانتقاد، وهم “لا يرون القذى في عيونهم ويعيّرون غيرهم بالقشة التي في عيونهم”، فيدينون في الوقت الذي يجب أن يكونوا هم المدانون، وذلك لوقوفهم حائلًا دون المساهمة في إضاءة ولو شمعة واحدة في الظلام الدامس، بل يكتفون بأن يلعنوا الظلام، وهم إن استحوا ماتوا.
ليس أسهل على المرء من ألا يقوم بأي عمل، ويكتفي بمراقبة الناس، ولكن مصيره في النهاية أنه سيموت همًّا. فهو لا يعمل ولا يريد أن يعمل، وبالتالي لا يترك غيره يعمل، والأنكى من كل ذلك أنه يتوسط الطريق ولا يزيح من درب الذين يعملون أو يريدون أن يعملوا بما يقدّر لهم من إمكانات ووزنات يسعون إلى مضاعفتها، وليس إلى دفنها وعدم استثمارها، وذلك من خلال ما يرونه مناسبًا للتقليل من الأضرار، التي يمكن أن تنجم عن أي قرار أو موقف قد لا يصبّ في نهاية المطاف في خانة المصلحة الوطنية، التي تتخطّى بمفهومها العميق أنوف الذين لا يتطلعون إلى أبعد منها.
فأي موقف يمكن أن يُتخذ على المستوى الرسمي لا يُرتجل، بل يكون نتيجة ما تجمّع لدى من يحمل بصدره كل الصدمات من معطيات ومعلومات مستقاة مما يرده من تقارير ديبلوماسية من أكثر من مصدر خارجي ومحلي، وهو “لا يمكن إدراجه سوى في سياق موقف متكامل واضح المقصد والرؤية، وأي اجتزاء أو تشويه لهذا الموقف لا يلغي الحقيقة الثابتة بأن مدخل الحل لكل أزمات المنطقة، هو في ارساء الحل العادل للقضية الفلسطينية. وما نشهده من توترات متنقلة بين الاراضي الفلسطينية وجنوب لبنان والبحر الاحمر وغيرها من الاماكن، يؤكد صوابية ما حذر منه دولته على الدوام ومطالبته بشمولية الحل لكل الازمات”، كما جاء في بيان مكتب رئيس الحكومة الإعلامي.
فمن يرى روما من فوق ليس كمن يراها من تحت. فالذين هم تحت غير قادرين على رؤية ما يمكن أن تكشفه الرؤية الشاملة من كل الزوايا المخفية على الذين لم تُعطَ لهم إمكانية الرؤية “البانورامية” الشاملة والواسعة الأفق. وهم وإن انتقدوا من يحاول بكل الوسائل المتاحة والممكنة أن يجنّب بلده المزيد من المشاكل، وأن يبعد عن جميع اللبنانيين ما يقلقهم وما يثير مخاوفهم وهواجسهم، إنما ينتقدون في لاوعيهم تقصيرهم في تحمّل جزء من المسؤولية وعدم إلقائها بالكامل على غيرهم، وهم يعرفون أكثر من غيرهم وفي قرارة أنفسهم أن ما يُعمل على الصعيد الحكومي هو أفضل الممكن في ظروف غير اعتيادية وغير طبيعية.
والسكوت الذهبي لا يعني بالضرورة أن ليس لدى الرجل ما يقوله للذين لا يوجهون إليه سوى الانتقادات، بل سكوته هذا مستوحىً من قول الامام علي “ما جادلت جاهلًا إلاّ وغلبني”.