كتب فؤاد بزي في “الأخبار”:
الشتاء مرشح ليكون أكثر حدّة إذاً، ومحمّلاً بأمطار طوفانية تهطل خلال ساعات قليلة فتجرف مناطق بأكملها، وتجعل من البنية التحتية المهترئة أصلاً من دون قيمة. أما الصيف، فأكثر حرارة. الطبيعة تتغيّر بسرعة، والنماذج الجوية ترجّح اختفاء فصل الربيع، بعدما زادت أيام فصلي الشتاء والصيف فجعلت التقاءهما من دون فترة انتقالية أمراً ممكناً.
مساهمته الضئيلة (0.07%) في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتصنيفه المتأخر (119 عالمياً) لجهة زيادة انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون، 119 عالمياً، لا يحولان دون وجود لبنان في قلب التغيّر المناخي وظواهر الطقس المتطرفة. خطر التغيّر المناخي طرق أبوابه بقوة، ووضع بنيته التحتية المتهالكة أصلاً أمام الامتحان الأقسى، فـ«موج البحر مرشح للتقدم أكثر نحو اليابسة، ومجاري السيول الموسمية ومستوى فيضان الأنهار سترتفع»، بحسب مهندسين متابعين. أما الأكثر تأثراً، فهي المجتمعات الزراعية التي تعتمد على التقلبات الحرارية اللطيفة ومياه الأمطار للريّ. فمن جهة، زادت فترات الجفاف وموجات الحر، ومن جهة أخرى تحوّلت الأمطار من نعمة إلى نقمة بسبب تركّزها في أيام قليلة.مع انحسار المنخفض الجوي الذي ضرب المنطقة قبل أسبوعين، وعشية المنخفض الجوي الحالي تكشّفت الأضرار والأرقام. فخلال أقل من 12 ساعة فقط، هطلت كميّة من الأمطار تعادل 50% من نسبة الهطولات لعام كامل، ووصلت إلى حدود 300 ملم، فيما لا يتجاوز المعدّل العام لكل الأراضي اللبنانية 800 ملم، بحسب أرقام وزارة البيئة. وخلال الأيام المقبلة، لبنان على موعد مع سلسلة منخفضات جوية، وشهر شباط، بحسب توقعات خبير الأرصاد الجوية علي جابر، «سينفِّذ مهمة الكانونين لناحية البرودة وموجات الصقيع». لا أمطار طوفانية مشابهة لما جرى خلال المنخفض الجوي الأخير هذه المرّة، بل ثلوج وصقيع ورياح قطبية باردة قابلة للتحول إلى عاصفة ثلجية مكتملة المعالم في حال تزامن وصولها مع المنخفض الجوي الممطر.
غير أن تداعيات العاصفة الأخيرة على المناطق الأكثر فقراً لا تزال تتكشّف. نتيجة للتغيّرات المناخية، والصيف الساخن، هطلت كميّة هائلة من الأمطار تسببت في تدمير مساكن أكثر من 2500 شخص، وفقاً لتقرير حول أضرار العاصفة صدر أخيراً عن المفوضية السامية للاجئين. فيضانات الأنهر عمّت 258 منطقةً في لبنان، وجعلت من كثيرين إما من دون مأوى، أو تحت سيف التهجير بسبب زعزعة أساسات منازلهم. أكثر المناطق تأثراً بالعاصفة الأخيرة كانت عكار، حيث اجتاحت السيول 174 نقطةً، وهجّرت أكثر من 1700 شخص من منازلهم، جلّهم فلاحون يسكنون في الحقول الزراعية.
لا تقارير رسمية بأضرار العاصفة الأولى حتى اللحظة، بل مجموعة أخبار من أعمال صيانة وإغاثة. في قرنايل مثلاً، تسبب انهيار التربة باقتلاع عدد من أشجار الصنوبر المعمّرة التي يزيد عمرها على 100 سنة، وفي ضهر البيدر تسبّبت السيول وتشبع التربة بالمياه في انهيار أجزاء من الطريق الدولي وأقفلته لساعات، وفي البقاع أغرقت فيضانات الأنهر والسواقي 66 موقعاً، وهجّرت 122 أسرة بحسب تقرير المفوضية السامية للاجئين.
سيناريو التغيّر المناخي وظواهر الطقس المتطرفة مرتقب بحسب الدراسات المناخية، وفق رئيس مصلحة الأرصاد الجوية مارك وهيبي، مشيراً إلى «تحوّل التقديرات إلى واقع، إذ تجانست الدراسات والتغييرات على الأرض». وأضاف: «التغيّر المناخي أصبح ملموساً، ما يستلزم آليات للتأقلم. فخلال العام الجاري، لاحظنا أمطاراً غزيرةً جداً، وفي حال تكرار السيناريو الحالي في السنوات المقبلة يمكن حينها الجزم بأنّها آثار التغيّر المناخي، وبالتالي يجب إدخال تعديلات على البنى التحتية، وتغيير هندسة الطرقات للمساعدة على تصريف المياه، وإيجاد أساليب جديدة لتثبيت البيوت للتأقلم مع المستقبل».
وعن الأرصاد الجوية وما تقوله الأرقام، لفت وهيبي إلى «تدنّي نسبة الأمطار خلال الأعوام الماضية. فبعد ثبات لأكثر من 30 سنة بمعدل يقارب 825 ملم من المتساقطات، انخفض المعدّل في السنوات الأخيرة إلى ما دون 800 ملم». ولكن السنة المطرية الحالية «كريمة، إذ تخطّينا المعدل العام في كل المناطق. فوصلت نسبة المتساقطات في بيروت إلى 676 ملم مقابل 420 ملم في الفترة نفسها من العام الماضي. وفي طرابلس هطل 716 ملم من الأمطار مقارنة بـ 436 ملم.
ولكن كمية الأمطار الكبيرة هذه السنة تخفي أمراً غير مطمئن. طريقة هطول الأمطار ونمطية تساقطها مغايرة لما اعتادته الأرض اللبنانية، إذ كانت تأتي عادةً بشكل معتدل، وتمتدّ فترات الشتاء لوقت أطول، فلا تتسبب بسيول، وتستوعبها قنوات التصريف كما التربة في الأحراج. أما اليوم، فكمية المياه المتساقطة أكبر من قدرة الأرض على امتصاصها، ما يؤدي إلى تشبع التربة بالمياه وانجرافها، إضافة إلى غرق قنوات التصريف بكميات كبيرة من المياه.
ويحسم مهندسون مختصون بالبنية التحتية ومواجهة مخاطر التغيّر المناخي بـ«ضرورة تغيير جميع مواصفات الأبنية والطرق خلال الأعوام المقبلة»، داعين إلى «ورش قانونية لتعديل النصوص، وإلى البناء وفق التغيّرات المناخية، والأخذ في الحسبان كميات الأمطار الكبيرة المرشحة للتساقط، لا الاعتماد على أرقام الـ 100 سنة الماضية، فالقادم مغاير تماماً». وحول قدرة مجاري المياه الموجودة حالياً على تحمّل كميات أمطار كبيرة، لفتوا إلى مشكلة مزمنة، إذ «لا تزال المجاري المخصصة للمياه المبتذلة مشتركة مع مياه الأمطار في معظم المناطق اللبنانية، ما يزيد الضغط عليها». ويحذّر هؤلاء من أن «الوقت يداهمنا»، إذ هناك ضرورة ملحّة لتوسعة مجاري الأنهر، وإزالة الأبنية المخالفة الموجودة عليها، أو في طريق السيول الموسمية، وإزالة الأبنية المخالفة عن الشواطئ بسبب احتمال تقدّم موج البحر في السنوات المقبلة نحو اليابسة، وبناء سناسيل أمام الموانئ الرئيسية، وتغيير نوعية الزفت المستخدم في تعبيد الطرقات، واستخدام أنواع قادرة على امتصاص المياه بشكل أكبر لتغذية المياه الجوفية من جهة، والتخفيف من تجمع المياه على الطرقات.
وفي سياق متصل، لفت المهندسون إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة مواجهة مواسم الجفاف الأطول والحرارة الأعلى أيضاً. أحد الحلول «إعادة تصميم الأبنية لتخفيف امتصاص الحرارة وتقليص كلفة التبريد، وفرض تعديلات على الأبنية في القوانين، مثل استخدام الزجاج العاكس للحرارة»، لافتين إلى أن ما يسمّى «الأبنية الصديقة للبيئة» ليست أكثر من «عمل دعائي».