يمكن اختصار الموازنة التي أقرّها مجلس النواب على الشكل الآتي: ضربٌ للقطاع الخاص، “تهشيلٌ” للمستثمرين، شعبويّة في عددٍ من البنود، تعزيزٌ للاقتصاد غير الشرعي، وضرائب عشوائيّة.
إذ كيف نفرض ضرائب إضافيّة على شركاتٍ في بلدٍ لا كهرباء فيه ولا مصارف ولا استقرار أمنيّاً، ويعاني من أزماتٍ لا تُعدّ؟ كأنّنا نقول لهذه الشركات، بطريقة أو بأخرى: اصرفوا موظّفيكم وأقفلوا أبوابكم.
“أعطيت ملاحظاتي بكلّ شفافية ولم أشارك في حفلة الجنون في المجلس النيابي ولم أصوّت لهذه الموازنة المهزلة”.
بهذه التغريدة، أبدى النائب ميشال ضاهر امتعاضه من الموازنة التي أقرّها البرلمان ولم ينتهِ الجدل حولها حتى اليوم. بل على العكس يتكشّف شيئاً فشيئاً كم هي تلك الموازنة عقيمة وغير قادرة على تلبية موجبات الحدّ الأدنى من الأزمة. وبدل أن تخرج بخطّة أو بحلول أو حتى بإجابات واضحة على الأسئلة الماليّة والنقدية والاقتصادية العالقة في البلاد، زادت في الأمور تعقيداً. وذلك على الرغم من أنّ لجنة المال والموازنة قد ألغت 35% من موادّها، وعدّلت 55% منها وأقرّت 10% فقط من الموادّ كما هي، أي كما وصلت من الحكومة.
على مستوى سعر الصرف، تركت إرباكاً وأسّست لمشكلة قديمة – جديدة، عنوانها العودة إلى تقاذف المسؤوليّات بين البرلمان والحكومة ومصرف لبنان. فلم نعرف إن كان سعر الصرف اليوم هو 15 ألفاً أو ارتفع By default إلى 89,500 ليرة. ولم نعرف إن كان القانون يسمح بهذه التخريجة التي رفضتها لجنة المال والموازنة مؤكّدةً أنّ تغيير سعر الصرف من وظيفة مصرف لبنان، وذلك بعدما شطبت كلّ نصّ يرمي إلى تشريع عبارة “منصّة صيرفة” واستبدلتها أينما وردت في النصّ بجملة: “سعر الصرف الذي يحدّده مصرف لبنان” باعتباره في نظرها “صاحب الصلاحيّة القانونية”.
أمّا على مستوى ما يحصل في جنوب لبنان نتيجة حرب غزة، فلم تأتِ الموازنة على ذكر تبعاته الماليّة على الإطلاق، بل تصرّفت الحكومة ومن بعدها البرلمان وكأنّ الأضرار في الجنوب في بلد آخر غير لبنان… وقس على ذلك الكثير من الثغرات التي قد يحتاج ذكرها إلى صفحات.
3 مليارات دولار TVA مخفيّة
يقول النائب ميشال ضاهر إنّ المشكلات في هذه الموازنة كثيرة، لكنّ أهمّها الضريبة على القيمة المضافة (TVA)، إذ إنّ “عائدات الدولة من المرفأ وحده كانت في السنوات السابقة تُقدّر بـ1 مليار دولار، لكنّ عائدات الـTVA من كلّ القطاعات اليوم في موازنة 2024 هي 1 مليار… فكيف ذلك؟”.
يضيف ضاهر، وهو أحد النواب الخبراء في ملفّ الموازنة وفي الموضوع الماليّ: “أيّ دولار يدخل عبر المرفأ يُفترض أن يصل إلى المستهلك بـ1.5 دولار، وهذا الفرق هو القيمة المضافة التي يُفترض أن تظهر بحسابات وزارة المالية على هذا الشكل”.
يشرح أنّ ثمّة موادّ أوّلية مخصّصة للصناعات: “تلك الموادّ تدخل لبنان بلا ضريبة على القيمة المضافة، ثمّ لاحقاً تُكلّف بالـTVA بعد أن تتحوّل إلى مكوّن نهائي على شكل سلعٍ مُعدّة للبيع في الأسواق اللبنانية للمستهلكين… كلّ هذا المردود لا يعرف أحد كيف تحتسبه وزارة المالية اليوم”.
قس على ذلك الكثير من الأمثلة كالاتصالات والكهرباء والخدمات والمطاعم التي تشتري الموادّ الغذائية وتحوّلها إلى أطباق مكلّفة بالـTVA… كلّ هذه السلع والخدمات أين عائداتها الضريبية؟ لا أحد يعلم.
يعيد النائب ضاهر ما قاله في المجلس النيابي خلال مناقشة الموازنة موجّهاً سؤاله للحكومة: “هل تضمنون لي الـTVA بـ3 مليارات دولار سنوياً؟ أنتم لا تستطيعون تحصيلها وأنا سأريكم كيف سأفعل ذلك”.
من هذا المثال السوريالي، ينطلق الضاهر ليؤكّد أنّ السلطة “متقاعسة ولا تجبي مستحقّاتها من ضرائب ورسوم”. وكذلك للقول إنّ “ثمّة مناطق عصيّة ولها لدى الدولة حسابات مختلفة”… وعليه، “كلّما زاد منسوب التقاعس كَبُرَ الاقتصاد غير الشرعي، وبالتالي ازداد التهرّب الضريبي وتراجع الاستثمار وارتفعت البطالة وتفاقمت المشكلة”.
يؤكّد النائب ضاهر أنّ “ما لا تفهمه الحكومة هو أنّ زيادة الضرائب ستدفع بالمستثمرين وأصحاب المصالح إلى زيادة هامش الأرباح من أجل الاستمرار، وكذلك من أجل التمكّن من دفع تلك الضرائب المتنامية”، وهو ما يعني في المحصّلة أنّ “الضرائب الإضافية ستقود إلى حلقة تضخّم إضافي… وهكذا دواليك”.
عمليّة جراحيّة اقتصاديّة موجعة
أضف إلى هذا كلّه أنّ “لبنان دولة لا كهرباء فيها ولا أمن ولا حتى أمان، ولا تشجيع على استثمارات… فإذا لم نعمل على توسيع حجم الاقتصاد فكيف يمكن الخروج من الأزمة؟ وهل يمكن ردّ ودائع الناس من دون النموّ الاقتصادي؟ للأسف كلّ النقاشات في الحكومة والبرلمان اليوم لا علاقة لها بالنموّ ولا بالبحث عن كيفية جلب الاستثمارات أو خلق فرص، بل الحديث منصبّ بمجمله على الشعبويّات، وعلى تعاميم مصرف لبنان وكيفية دفع 100 أو 150 دولاراً للمودعين”.
أمّا المشكلة الثانية في نظر ضاهر فهي رواتب القطاع العامّ، إذ يرى أنّه “لا يمكن استمرار الموظّفين بتلقّي رواتب هزيلة كهذه، فيعترضون وينفّذون الإضرابات التي تؤثّر بدورها على إنتاجية القطاع العامّ وتحصيل الأموال لمصلحة خزينة الدولة، وكذلك على إنتاجية القطاع الخاصّ الذي يتأثّر بالإضرابات وإقفال الإدارة”.
وعليه، يرى ضاهر أنّ الرواتب “لا بدّ أن ترتفع لتصل إلى قرابة 3/1 ممّا كانت عليه في السابق قبل الأزمة”، أي أنّ الموظّف العامّ الذي كان يتلقّى راتباً يعادل 1,000 دولار قبل الأزمة، لا بد أن يحصل على 350 دولاراً اليوم، لا أن ندفع له 100 دولار شهرياً ثمّ نقول له إذهب إلى العمل”.
يخلص إلى القول إنّ “الخروج من الأزمة بحاجة إلى عملية جراحية دقيقة جداً، وتلك العملية تصيب الجميع بالوجع بلا شكّ، لكنّ علينا أن نتحمّل وأن نوزّع المسؤوليّات… وإلّا فسوف نخسر كلّ شيء”.
عماد الشدياق -اساس ميديا