“الشيعة ضد الحرب”، عنوان يطالع غالبيّة اللبنانيين الذين يتصفحون حوائطهم في منصّات “ميتا”، لا سيّما “فايسبوك”. تتصدّر الصفحة بمنشوراتها وفيديوهاتها وصورها، المشهد في مواقع التواصل الاجتماعي، ليصبح السؤال بين المواطنين: “هل مرّت عليك هذه الصفحة؟ لمن تتبع؟”.
ببساطة، تعرّف الصفحة عن نفسها على أنّها “حركة اعتراض شيعية لعدم القيام بمغامرات غير محسوبة”، وتندرج تحت فئة المنظمات غير الحكومية NGO. بعد الحرب الإسرائيلية على غزّة، والتي امتدّت إلى جنوب لبنان لينخرط فيها حزب الله إسناداً للمقاومة الفلسطينية، ظهرت لافتات “لبنان لا يريد الحرب”. ومن بعدها، خرجت صفحات معارضة للحزب وحركة أمل، وتروّج للخطاب المعارض للحرب أيضاً.
لم تُعلن “الشيعة ضد الحرب” عن نفسها رسمياً في لبنان، بل كانت ولادتها في “فايسبوك” يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر 2023. تأسّست بهويّة بصريّة ترمز الى اهتمامات الطائفة الشيعية، لا سيّما عاشوراء. فيظهر “اللوغو” على علم أحمر اللون كتب عليه “الشيعة ضد الحرب”، وعلى جانبيه علَمان كتبت عليهما عبارتا “يا حسين” و”يا شهيد كربلاء”. اللافت، أنّ الصفحة أخفت مؤسسها، أو مؤسسيها، ولا يظهر في قسم “شفافية الصفحة Page Transparency” سوى تاريخ إنشائها.
تنشر الصفحة يومياً مقاطع لشخصيّات شيعيّة معروفة بمعارضتها للحزب في الجنوب، لعلّ أبرزها السيد علي الأمين. في منشورات أخرى، تمرّر رسائل حول “من جرّ لبنان إلى الحرب؟”، عارضةً أحوال بعض النازحين الجنوبيّين. وتأخذ فيديوهات متداولة، ليست من إنتاجها، وتنشرها تحت شارة “ثمن الحرب” و”شو بدنا بالحروب”.
وعلى جانبٍ آخر، تشارك الصفحة نشاطات لحركة “تحرُّر” التي أسّسها الأستاذ الجامعي علي خليفة، والطبيب هادي مراد، والصحافي محمد عواد، وهي حركة معارضة شيعية أيضاً. النظر في صفحة “الشيعة ضد الحرب” بالتوازي مع “تحرّر”، يظهر للوهلة الأولى أنّهما مرتبطتان أو تنتسب واحدة للأخرى بشكل أو بآخر، خصوصاً أنّ الصفحة تروّج لأعمال مؤسسي “تحرّر”. كما تشارك مقالات كتّاب معارضين للحرب أيضاً.
“تحرّر” تنفي علاقتها
لكن بتاريخ 21 كانون الأول/ ديسمبر، نشرت حركة “تحرّر” توضيحاً يتضمّن التالي: “إنّ حركة “تحرُّر”-من أجل لبنان، غير مسؤولة عمّا تصدره الصفحة المسمّاة “الشيعة ضد الحرب” أو غيرها، سواء أكانت هذه الإصدارات عن حسن أو سوء نية. ويهمّ حركة “تحرُّر”-من أجل لبنان أن توضح أن ما يصدر عنها من بيانات أو مواقف أو نشاطات متضمّنة حصراً في صفحاتها الرسمية، بما فيها قناة التواصل الرسمي عبر رقم الهاتف كما الصفحات الشخصية المعروفة للأعضاء المؤسسين على مواقع التواصل وأرقامهم المعروفة. فاقتضى التوضيح”.
في اتّصال مع “المدن”، جدد خليفة نفيه بأن يكون على معرفة بمؤسسي الصفحة أو هدفها، مشيراً إلى أنّها “تنشر مواداً متعلّقة بنا من دون أخذ الموافقة عليها”.
ويتابع “الشيعة ضد الحرب” حصراً صفحة أخرى، غير معروفة المصدر أيضاً، تُسمّى “الشيعة المستقلّون”، كما تتابع شخصيّتين معارضتين هما علي ولاء مظلوم والصحافي حسين علي عطايا. ونفى الأخير أيضاً لـ”المدن” أن يكون على معرفة بالصفحة.
معلومات صادمة
الغوص في عمق الصفحة، والدخول إلى “مكتبة الإعلانات” يظهر معلومات إضافية صادمة. منذ نشر أوّل إعلان لها في 8 كانون الأول/ ديسمبر، حتى اليوم، ما زالت الصفحة تدفع على الإعلان الترويجي لـ12 منشوراً بشكل مستمر. وأوقفت الدفع على منشورين آخرين فقط. هذه الإعلانات هي للترويج لمنشورات مثل: “من سيعتني بالنازحين؟”، وأخرى تضمّنت نِسَباً واهية لا تُبنى على دراسة فعليّة تزعم أنّ “50 في المئة من الشيعة ضدّ الحرب”.
يشرح أحد المتخصّصين في خوارزميات وإعلانات “ميتا”، أنّه لكي تسمح “ميتا” للصفحة بنشر إعلانات تحت خانة “القضايا الاجتماعية أو الانتخابات أو السياسة”، فلا بد من أن تزوّدها بمعلومات شخصية عنها. مثلاً، بما أنّ الصفحة عرضت نفسها كمنظمة غير حكومية، يجب أن تعرض الأوراق التي تثبت أنّها مسجلة كذلك. ومن الممكن أن تكون مسجّلة خارج لبنان لتصرّح لها “ميتا”.
اعلانات بـِ6 آلاف دولار
في مكتبة الإعلانات، يظهر إعلانان غير فعّالين “inactive”، والرقم المدفوع لكلّ منهما هو أكثر من مليون دونغ فيتنامي، أي أكثر من 40 دولاراً أميركياً للإعلان الواحد. تستقصد الصفحة أن تعلن عن أنّها تدفع بالعملية الفيتنامية، على عكس غالبية الصفحات التي تظهر بالدولار، ربما، لتشتّت من يريد أن يبحث فيها.
هنا، يمكن افتراض أن الصفحة تبدّل العملة التي تسدّد بها سعر الإعلانات إلى العلن، أو استخدمت “VPN – شبكة خاصة افتراضية” لتقوم بهذه الخدع.
يظهر جليّاً أنّ “الشيعة ضد الحرب” محصّنة نفسها، بل وربما استعانت بخبراء في مواقع التواصل الاجتماعي لتخرج بهذه النتيجة. عند احتساب الحد الأدنى المدفوع لهذه الاعلانات منذ إطلاقها، يتبيّن أنّ الصفحة أنفقت، حتى الآن، 6 آلاف و300 دولار على الأقل. هو رقم كبير، غير اعتيادي، مقارنة بالسوق اللبناني، بحسب ما ذكره المتخصّص في خوارزميات وإعلانات “ميتا” لـ”المدن”.
انطلاقاً ممّا سبق، توضّح الصورة أنّ هويّة “الشيعة ضد الحرب” ملتبسة، وتفتح المجال أمام افتراضات عديدة. إمّا أن هناك جهات خارجية تستفيد من الانقسام اللبناني وتحاول تعزيز الشرخ عبر الدفع بهذه الصفحة اعلانياً، وإمّا أن الصفحة تعود لقوى سياسية لبنانية معارضة، وربّما تكون غير شيعية أيضاً. فالصفحة تنسجم مع خطاب الفئات الشيعية المعارضة للحرب، لكن الشخصيات المعارضة نفسها نفت علاقتها بها. فإذا كانت الصفحة فعلياً تدار من جهات داخل لبنان، من الطبيعي أن تعلن عن هويّتها كونها أعلنت عن مواقفها وآرائها بشكل واضح بأنّها “حركة اعتراض شيعية لعدم القيام بمغامرات غير محسوبة”. وإزاء هذه الضبابية، تبقى الجهة التي تقف وراء الاعلانات بالصفحة، مجهولة.