لم تختلف التغيّرات في ميزانيّة المصرف المركزي، في نهاية الشهر الأوّل من السنة الحاليّة، عن تلك التي شهدتها الميزانيّة في الأشهر القليلة الماضية. فالمصرف ما زال يراكم المزيد من الاحتياطات، مستفيدًا من تدخّله شاريًا للدولار من السوق، ومن قرار المجلس المركزي للمصرف القاضي بوقف ضخ الدولارات، والامتناع عن تمويل الدولة بالعملة الصعبة. أمّا احتياطات الذهب، فواظبت على تسجيل انخفاضات ملموسة في قيمتها، متأثرةً بتقلبات أسعار الذهب العالميّة.
المختلف في هذه الميزانيّة النصف الشهريّة، هو أنّها قد تكون من أواخر الميزانيّات النصف الشهريّة، أو ربما آخرها على الإطلاق، التي يتم إعدادها وفق سعر الصرف المحدّد عند 15 ألف ليرة، مع اتجاه المصرف المركزي لإلغاء آخر مظاهر تعدّد أسعار الصرف.
المهم في كل ما سبق ذكره، هو أنّ الزيادة الملموسة في احتياطات مصرف لبنان، والتي مثّلت نسقًا مختلفًا عن ذلك الذي شهدناه أيام الحاكم السابق رياض سلامة، باتت تؤثّر بشكل واضح على وضعيّة المودعين وآليّات التعامل مع أزمتهم. وقد يكون التعميم 166، الذي أعطى الحسابات المستفيدة سابقًا من التعميم 151 حق السحب بالدولار، إحدى التداعيات الإيجابيّة لزيادة احتياطات مصرف لبنان، ولزيادة قدرة المصرف المركزي على تحمّل كلفة تطبيق هذا الإجراء.
زيادة الاحتياطات: 793 مليون دولار منذ رحيل سلامة
وفقاً لأرقام ميزانيّة نهاية الشهر الماضي، حقّق مصرف لبنان زيادة في احتياطاته بالعملات الأجنبيّة بقيمة 50 مليون دولار، خلال النصف الثاني من شهر كانون الثاني، أي خلال 12 يوم عمل فقط. في النتيجة، ارتفع حجم الموجودات الخارجيّة، أي الموجودات بالعملة الصعبة، من 14.53 مليار دولار في منتصف الشهر، إلى نحو 14.58 مليار دولار في نهايته. مع الأخذ بالاعتبار أن هذا المبلغ يشمل نحو 5 مليار دولار من سندات اليوروبوند التي يملكها مصرف لبنان، والتي لا تُعد موجودات سائلة بالفعل، ما يعني حجم الاحتياطات السائلة فعلًا يقارب حدود 9.58 مليار دولار.
على أي حال، من المهم الإشارة هنا إلى أنّ ما يجري يُعد استمرارًا لنمط زيادة الاحتياطات نفسه، الذي شهده مصرف لبنان منذ نهاية ولاية الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. إذ عكس هذا النمط الإيجابي أثر وقف عمليّات منصّة صيرفة، التي مثّلت مصدرًا أساسيًا لاستنزاف الاحتياطات في المرحلة السابقة. ومن المعلوم أن منصّة صيرفة كانت مسؤولة عن تبديد نحو 2.3 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان، في السنة الأخيرة من ولاية سلامة وحدها، من دون أن يتمكّن المصرف في بعض فترات تلك السنة من تحقيق الهدف المُعلن من استنزاف الدولارات، أي ضبط سعر صرف الليرة.
في جميع الحالات، وحتّى نهاية الشهر الماضي، كانت احتياطات مصرف لبنان قد ارتفعت بنحو 793 مليار دولار، مقارنة بحجم الاحتياطات عند مغادرة سلامة لمنصبه في بداية شهر آب الماضي. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن حجم الاحتياطات السائلة المتوفّرة كان قد قارب حدود 8.78 مليار دولار في نهاية ولاية سلامة، فهذا يعني أنّ مصرف لبنان تمكّن من زيادة حجم هذه الاحتياطات بنسبة 9% حتّى الآن.
وهذا ما يعني أنّ الزيادات أثّرت وبشكل ملحوظ على سيولة وملاءة مصرف لبنان، وعلى هامش المرونة الذي يملكه، للتدخّل في السوق. بمعنى أوضح، لم نعد نتحدّث هنا عن تحوّلات هامشيّة ومحدودة الأثر، بل عن تغيّر سيكون له أثر واضح على أداء المصرف المركزي ودوره.
التعميم 166 والتحوّل في أداء مصرف لبنان
التعميم 166، الذي صدر صباح يوم أمس السبت، يمثّل دلالة على التغيّرات التي طرأت مؤخّرًا على أداء المصرف المركزي وفعاليّة إجراءاته. فكما بات معروفًا للجميع، من المفترض أن يتحمّل مصرف لبنان نصف كلفة تطبيق هذا التعميم، أي نصف كلفة السحوبات التي سيؤمّنها للمودعين المستفيدين من التعميم، والتي تبلغ 150 دولاراً شهريًا للمودع الواحد. ومن الناحية المحاسبيّة، سيتحمّل مصرف لبنان هذا الجزء من الكلفة عبر تسديدها من الاحتياطات المتوفّرة، على أن يشطب –في المقابل- قيمة موازية من توظيفات المصارف لديه.
ببساطة، لم يكن مصرف لبنان ليملك هذا الهامش من المناورة، وهذه القدرة على توسيع نطاق المستفيدين من السحوبات النقديّة بالدولار، لولا عودة الاحتياطات إلى التزايد خلال الشهر الماضي. فنمط التزايد في قيمة الاحتياطات المتوفّرة، وفّر للمصرف المركزي ملاءة ماليّة متزايدة للتعامل مع هذا النوع من التعاميم، في حين أن نمط استنزاف الاحتياطات –قبل بداية آب الماضي- كان يحد من قدرة هذه الاحتياطات على تحمّل أي عبء إضافي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المصادر المصرفيّة أفادت أن مصرف لبنان سيسمح لبعض المصارف بتحمّل حصّتها أو نصيبها –أي النصف الآخر- من كلفة السحوبات بالليرة اللبنانيّة، على أن يؤمّن المصرف المركزي –مقابل هذه الليرات- الدولارات المطلوبة لتأمين السحوبات. بهذا الشكل، سيكون المصرف المركزي قد تحمّل كامل العبء المدولر للسحوبات في هذه المصارف، مقابل تحمّل هذه المصارف نصف العبء بالليرة لا الدولار الأميركي. وهذا ما يؤشّر مجددًا إلى هامش المرونة الذي بات يملكه المصرف المركزي، عند التعامل مع بعض الملفّات المصرفيّة.
أثر تغيير سعر الصرف الرسمي
صباح يوم أمس السبت، وبالتوازي مع التعميم 166، أصدر مصرف لبنان التعميم 167، والذي لم ينل حظّه من الاهتمام الشعبي والإعلامي، نظرًا لتركّز الأنظار على مسألة السحوبات والودائع. غير أنّ هذا التعميم سيكون له أثر بالغ، على آليّات تنظيم ميزانيّات المصارف التجاريّة، وعلى كيفيّة احتساب خسائرها.
فهذا التعميم، فرض على المصارف إعداد الميزانيّات والتصريح عنها بحسب “السعر المعلن على المنصّة الإلكترونيّة لمصرف لبنان”، أي حسب سعر الصرف الواقعي في السوق، بدل إعداد هذه الميزانيّات بحسب سعر 15 ألف ليرة للدولار الأميركي. وهذا ما سيفرض على المصارف التصريح عن جزء إضافي من الفجوة، أو الخسارة، المتمثّلة في الفارق بين موجوداتها وإلتزاماتها بالدولار الأميركي. إذ كانت المصارف تخفي جزءًا أساسيًا من هذه الفجوة باعتماد سعر صرف منخفض للتصريح عن الإلتزامات.
في جميع الحالات، إذا كان مصرف لبنان سيطبّق هذا التعميم على المصارف التجاريّة، فمن الطبيعي ترقّب تطبيق الإجراء نفسه على ميزانيّة مصرف لبنان، نظرًا لضرورة وجود الحد الأدنى من التناسق المحاسبي في القطاع المصرفي ككل. وبطبيعة حال، سيكون أثر هذا الإجراء المحاسبي أكبر عند النظر في ميزانيّة مصرف لبنان، إذ أنّ الكتلة الأكبر من الخسائر، أي الفجوة بين المطلوبات والموجودات بالدولار، موجودة في ميزانيّة مصرف لبنان لا المصارف التجاريّة. وهذا ما سيفرض بطبيعة الحال ترقّب الآليّات التي سيعتمدها مصرف لبنان، للتصريح عن هذه الفجوة، بعد انكشافها بتغيير سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّة
في النتيجة، تبقى المشكلة الأهم كميّة البنود المحاسبيّة الملتبسة التي ورثتها ميزانيّة مصرف لبنان، من حقبة رياض سلامة، وخصوصًا تلك التي تُعنى بالديون والإلتزامات التي أضافها الحاكم السابق على كاهل الدولة اللبنانيّة، من دون أي سند أو تبرير قانوني. وهذه الإجراءات، ما زالت ماثلة في الميزانيّة، من دون أن يعمد الحاكم بالإنابة –ومعه المجلس المركزي للمصرف- لتصحيحها أو التراجع عنها. وفي الوقت الراهن، تبقى مسألة هذه البنود معلّقة بانتظار عمليّة تصحيح الميزانيّات، التي يفترض أن يعمل عليها المصرف المركزي بالشراكة مع خبراء صندوق النقد الدولي.
علي نور الدين – المدن