عاني إدارة الرئيس جو بايدن إرباكاً واضحاً في الشرق الأوسط. فهي من جهة منحت بنيامين نتنياهو تغطية لينفّذ عمليته العسكرية في رفح، لكنها ضمناً لا تريد إفساد العلاقة التي تزداد دفئاً مع إيران، والشراكة التقليدية مع المصريين والسعوديين. وهذا السلوك الملتبس يهدّد بالوصول إلى صدمات خطرة.
يقول ديبلوماسي: «لا أحد يعرف ماذا يريد الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط. وعلى الأرجح، هو نفسه لا يعرف، ولا يمتلك الأدوات لتنفيذ ما يريد. فلا القوى الإقليمية تساعده، ولا القرار العميق في واشنطن في يده. وهذه التناقضات ستكون لها تداعياتها الخطرة».
تحاول واشنطن اليوم أن تمسك بالعصا من وسطها في الشرق الأوسط، لعلّها تستطيع قطف ثمار الأزمات، لكن سلوكها ليس مضمون النتائج. فهي أبلغت الى نتنياهو، عبر أقنية عدة، أنّها «تسمح» له بتنفيذ عملية عسكرية أشبه بالعملية الجراحية في رفح، شرط التزام 3 ضوابط أساسية:
ـ أن لا تؤدي إلى وقوع المدنيين في حمام دم.
ـ أن لا يكون مداها الزمني مفتوحاً.
ـ أن تتمّ في سياق خطة واضحة ومتفق عليها، بحيث تنتهي بها حرب غزة، بهزيمة «حماس»، فيُفتح باب التسويات السياسية في الملف الفلسطيني وملفات أخرى.
في تقدير إدارة بايدن أنّ هذه الموافقة «المدروسة» على عملية «منخفضة الأكلاف» وسريعة، ترضي إسرائيل، من دون أن توتر العلاقات مع إيران أو تُغضب المملكة. أي إنّ الحرب، في مفهوم واشنطن، يجب أن تنتهي في أسابيع قليلة. ولذلك، سارع نتنياهو إلى إطلاق «وعد» بإنهاء عملية رفح قبل بدء شهر رمضان، في 10 آذار المقبل، «كُرمى لعيون بايدن».
ولكن، عملياً، بموافقته على عملية رفح، وضع بايدن بيضه كلياً في سلة نتنياهو الذي سيستحيل عليه أن ينفّذ عملية «نظيفة» ومقتضبة وهادفة هناك. والتجارب واضحة في مدن القطاع الأخرى.
وللتذكير: استغرق دخول أكثر من مليون نازح إلى رفح أكثر من 4 أشهر من القتال. وليس سهلاً تهجير هؤلاء في أسبوع أو اثنين، ولو تحت وابل القنابل المدمّرة، ما دامت المناطق التي نزحوا منها شبه مدمّرة. وأما الدفع بهم نحو أحد معبري رفح أو كرم أبو سالم لتهجيرهم نحو سيناء فيستلزم وقتاً لإنضاج ظروف ميدانية وترتيبات علنية أو مستترة مع الجانب المصري الذي ما زال يرفض التعاون. وتالياً، إنّ تخطيط بايدن للاستثمار السياسي في ملف غزة، والذي سيُترجَم بمفاوضات شاملة مع إيران، ليس مضموناً.
وفي الوقت الضائع، تدور حرب ضروس بين بايدن ونتنياهو شخصياً، وصلت إلى الذروة، وفيها يحاول كل منهما إسقاط الآخر، لكنه لن يستطيع تحقيق هدفه بالأدوات السياسية المتوافرة. فبايدن باقٍ عاماً كاملاً في البيت الأبيض، وحكومة نتنياهو لا يمكن أن تسقط ما دامت الحرب مندلعة، وهو لن يوقفها خلال العام الجاري.
ولذلك، بدأ بعض الخبراء يتحدث عن تصوّر غير تقليدي لمسار العلاقات بين الثلاثي بايدن ـ نتنياهو والطرف الإيراني. ووفق هذا التصور، قد يقوم بايدن بإبرام تفاهم ضمني أو علني مع الإيرانيين، يحظى بدعم العرب، لإجبار نتنياهو على وقف حرب غزة ودخول المفاوضات. وقد يلقى هذا التفاهم تأييداً ضمنياً من جانب بعض قوى المعارضة في إسرائيل. ويقول الخبراء إنّ طهران قد تجد في هذا التفاهم فرصةً لا يجوز تفويتها للضغط على نتنياهو، خصوصاً أنّ حليفتها «حماس» ستكون في وضع صعب إذا خسرت معركة رفح.
سيحتاج بايدن، في نهاية حياته السياسية، إلى تدعيم حظوظه كمرشح رئاسي قوي. وهو لذلك يبحث عن إنجازين في مكانين في العالم: الشرق الأوسط وأوكرانيا. لكن مشكلته تكمن في أن نتنياهو يفضّل المراوحة في غزة عاماً كاملاً حتى يعود دونالد ترامب، ومثله فلاديمير بوتين في أوكرانيا.
في الواقع، هي لعبة حياة أو موت يخوضها بايدن ونتنياهو، وكذلك إيران التي ستخسر الورقة الفلسطينية تماماً إذا هُزمت «حماس»، وستضعف أوراقها الأخرى في لبنان وسائر الشرق الأوسط.
ولذلك، في الأسابيع والأشهر الآتية، سيلعب كلٌّ من الثلاثة «صولد»، ليحافظ على رأسه. ولا أحد يستطيع تقدير الأساليب والأدوات التي سيستخدمها كل منهم ليحمي نفسه ويُسقط الآخرين، شخصياً أو سياسياً. ولكن، ليس مستبعداً أن تكون من نوع الضربات المحرّمة.
طوني عيسى-الجمهورية