التعافي الاقتصادي وتصحيح الرواتب

كتب العميد المتقاعد غازي محمود في” القناة الثالثة والعشرين” :

تستمر رواتب وأجور موظفي القطاع العام والأجهزة العسكرية والامنية في المراوحة عند مستويات متدنية بالمقارنة مع المستوى العام لأسعار السلع والخدمات، ما يؤكد أن الربط بين الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان وبين حجم القطاع العام وتكلفته امراً يُجافي الحقيقة. في الوقت الذي أدت فيه الازمة الى مزيد من تدني القوة الشرائية للرواتب والأجور لتصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، وهي لا تزال في حال من السقوط الحر حتى اليوم، على الرغم من الزيادات المقطوعة التي تم إقرارها تحت مسميات مختلفة.
ولجوء حكومة تصريف الاعمال الى زياداتٍ لا تمت بصلة الى ما يحتاجه فعلياً الموظفون لعيش حياة كريمة، فيه إجحاف بحق موظفي القطاع العام وبحق الاجهزة العسكرية والامنية. خاصةً وأن الرواتب والأجور اضمحلت لتبلغ حدود الـ ١٠٪ مما كانت عليه قبل الازمة، وذلك سواء لمن لا يزالون في الخدمة الفعلية او لأولئك الذين أحيلوا على التقاعد. 
وفي الوقت الذي اعتقد المحالون على التقاعد لا سيما العسكريون منهم، أن تعويضات نهاية الخدمة هي مدخرات يُعوضون بها بعض الحرمان الذي عانوه خلال الخدمة، انخفضت قيمتها لتساوي أقل من راتب شهرين مما كان عليه راتب قبل الازمة، بعد أن كانت تتراوح قيمتها بين ٢٠ و٥٠ بحسب عدد سنوات الخدمة. وضاعت آمال المتقاعدين بتصحيح أوضاعهم مع هذا الانخفاض لقيمة التعويضات، لتكمل المصارف قضم ما تبقى منها من خلال احتجاز هذه الودائع وشروط سحبها.
في المقابل يستمر المستوى العام للأسعار في الارتفاع منذ مطلع العام ٢٠٢٠ وحتى اليوم، بالتزامن مع انهيار قيمة العملة الوطنية وما رافقها من انكماش اقتصادي. ومما فاقم الامر إقدام التجّار ومقدِّمي الخدمات، بمن فيهم مقدِّمي الخدمات العامّة، على دولرة أسعار سلعهم وخدماتهم من دون أن يحول ذلك من استمرار ارتفاعها. كما تمّ وقف دعم السلع التي كان يخضع استيرادها لسعر صرف محدد ما أدى الى تحرير أسعارها، بما في ذلك أسعار الوقود، والكهرباء، والاتصالات، وحتى الخبز والدواء.
وقد انعكس انخفاض القوة الشرائية لرواتب وأجور موظفي القطاع العام وعناصر الأجهزة العسكرية والأمنية سلباً على الإدارة العامة وادائها، ما أدى الى تزايد نسبة الشغور فيها وانخفاض عديد القوى العسكرية والأمنية نتيجة تخلي الموظفين عن وظائفهم والعسكريين عن خدمتهم. فيما تلجأ السلطة السياسية الى تعويض الشغور بالتعاقد خلافاً للقانون، ومن دون أن يؤدي هذا التعاقد الى معالجة الخلل الوظيفي الذي يسببه الشغور. سيما وأن الشغور الذي لحق في ملاكات هذا القطاع بلغ ما يزيد على الـ ٧٠٪، بحسب تقرير مجلس الخدمة المدنيّة عن المسح الشامل لأعداد الموظفين والمتعاقدين والأجراء والعاملين نهاية العام ٢٠٢٢. 
وقد استساغ القيمون على الشأن العام التوسع بالتعاقد لتعويض النقص في عدد الموظفين، كونه يلبي رغبتهم بإدخال المحسوبين عليهم الى الوزارات والإدارات، ما أدّى إلى إحداث تضخّم في بعض فئات المستخدمين وعلى حساب مبادئ التدرج والاقدمية. مع العلم أن خطّة التعافي المالي كانت قد نصّت على الشروع بعملية إعادة هيكلة الادارة العامة، وإعادة توزيع الموظفين والمتعاقدين على الوزارات والمؤسسات بحسب الحاجة. 
ولم تعد الدعوات الى ترشيق القطاع العام وتخفيض كلفته المالية مبررة بعدما انخفض حجم رواتب واجور موظفي هذا القطاع الى مستوياتٍ غير مسبوقة، وبعدما تقهقرت التقديمات التي كانت تُشكل جزء لا يُستهان به من دخل هؤلاء. وفي الوقت عينه، فقدت دعوات خصخصة بعض المؤسسات والإدارات اسبابها ومبرراتها أيضاً، وانعدمت جاذبيتها للمستثمرين المحتملين لا سيما في ظل الاوضاع السياسية غير المستقرة والاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على جنوب لبنان. 
وبينما كانت كلفة الرواتب تزيد على ٨ مليار دولار في موازنة العام ٢٠١٩، بحسب سعر الصرف الذي كان سائداً حتى ذلك التاريخ. وبعد أن بلغت نسبتها قُرابة الـ ٢٠٪ من قيمة نفقات موازنة العام ٢٠١٩، انخفضت في موازنة العام ٢٠٢٤ لتبلغ نسبتها ٩.٨٪ من اجمالي النفقات التي اقتصرت على التشغيلية منها. ما يجعل من الامتناع عن زيادة الرواتب والأجور بحجة ضرورة الحفاظ على توازن الموازنة في غير مكانه، سيما وأنه غالباً ما تعمد الحكومات الى زيادة العجز المالي لمواجهة الانكماش وتحريك عجلة الاقتصاد.
وقد جاءت الازمة المالية والاقتصادية لتدل على أن المشكلة لا تكمن في حجم القطاع العام ولا في تكلفته، بل في الهدر المتعمد للمال العام الذي أقدمت عليه السلطة السياسية من خلال الإنفاق العشوائي على مشاريع تعود بالمنفعة على أركانها، وصولاً الى دعم السلع الاستهلاكية المستوردة الى غيرها من أساليب الهدر واللائحة تطول. وقد فضحت الازمة مدى سوء إدارة المال العام ومستوى الهدر في التلزيمات والصفقات الحكومية، والتي تفوق بعشرات المرات كلفة الرواتب والأجور وغيرها من التقديمات والعطاءات.
وكشف مشروع مرسوم جلسة الحكومة التي انعقدت يوم السبت ١١ شباط/ فبراير ٢٠٢٤، عن التمييز غير القانوني بين موظفي القطاع العام من عسكريين ومدنيين الذي درجت على اتباعه حكومة تصريف الاعمال في كل مرة تُقرّ فيها زيادات على الرواتب والاجور. وإن دل هذا التمييز على شيء إنما يدل على عجز الحكومة عن وضع استراتيجية شاملة ومتكاملة للرواتب والأجور تشمل العسكريين والمدنيين وتؤمن العدالة فيما بينهم، وتكون حجر الزاوية في الاستراتيجية الاوسع لخطة النهوض والتعافي الاقتصادي. 
في المقابل تتجاهل هذه الحكومة حقوق عناصر الجيش والقوى الأمنية، الذين يواظبون على القيام بمهامهم بمناقبية منقطعة النظير. لا بل هي لا تتردد في زج العسكريين في مواجهة المتظاهرين وخاصة المتقاعدين منهم الذين يُطالبون بأنصافهم اسوة بزملائهم في الخدمة الفعلية وتصحيح رواتبهم وفقاً للقوانين المرعية الاجراء. أما تأجيل البت بالمرسوم المشار اليه أعلاه فلا يمكن الركون اليه مع حكومة لا تفي بالتزاماتها، علماً أن التأجيل والعمل على تعديل المرسوم ما كان ليتم لولا التدخل المشكور لقائد الجيش. 
ولتصحيح الرواتب والأجور دور محوري في صياغة أية استراتيجية للإصلاح الاقتصادي، من هنا ضرورة أن يُصار الى تصحيح الرواتب لا الى زيادتها. والمقصود بتصحيح الرواتب اعتماد سلسلة رواتب جديدة توفر الحد الأدنى من مستلزمات الحياة الكريمة، وترفع الغبن عمن هم في الخدمة وكذلك عمن ستُنهى خدماتهم او يُحالون على التقاعد. ذلك أن الزيادات المؤقتة التي تمت على الرواتب والأجور حتى اليوم تنطوي على محاولة للالتفاف على حقوقٍ مكتسبة للموظفين والعسكريين، كونها لا تدخل في صلب الراتب ولا تدخل بالتالي لا في احتساب تعويض الصرف ولا في المعاش التقاعدي. 
ومن الجدير بالذكر أن الرواتب والأجور تؤدي دور اقتصادي اساسي في الدورة الإنتاجية، بما تشكله من ثمن لأحد عناصر الإنتاج الثلاثة الا وهو العمل مقابل مساهمته في العملية الإنتاجية. وهي محرك أساسي للعجلة الاقتصادية، كون مداخيل محدودي الدخل تستخدم للاستهلاك بشكلٍ أساسي. 
وأي زيادة على الرواتب والأجور هي زيادة للقدرة الشرائية للموظفين وتنعكس حكماً ارتفاعاً في الطلب على السلع والخدمات، وزيادةً في الاستهلاك تُسهم في تحريك القطاعات الإنتاجية والاقتصادية المختلفة. فالرواتب والأجور ليست مجرد تكلفة تدفعها الدولة لموظفي القطاع العام، بل هي ثمن مساهمة هؤلاء الموظفين في توفير الخدمات العامة، من دون موظفين مدنيين وعسكريين لا وجود للقطاع العام او لخدماته.
انطلاقاٌ مما تقدم، إن تهرب حكومة تصريف الاعمال من تصحيح الرواتب والأجور في القطاع العام، إنما هو تهرب من السير بموجبات الإصلاح الذي بدونه لا امل بنهوض لبنان من كبوته ولا في تحقيق تعافيه الاقتصادي. فما من إصلاحٍ من دون قطاع عام كفوء ومكتفٍ، قطاع يتقاضى فيه الموظف ما يكفيه ويُلبي احتياجاته، لا بل لا أمل في تعافي لبنان الاقتصادي ما لم يتم تصحيح رواتب واجور موظفي القطاع العام وفق نسبة مئوية من راتب ما قيل الازمة وبحسب توافر الإيرادات، وتكون قابلة للتعديل بما يحقق مبادئ العدالة والمساواة بين اصحاب الحقوق. 

Exit mobile version