خلافًا لما تمّ تداوله عن “تهدئة” تمهّد بشكل أو بآخر لـ”تسوية” بين “حزب الله” وإسرائيل، يقال إنّ الولايات المتحدة توصّلت مع حلفائها الأوروبيين إلى “نواتها”، إن جاز التعبير، يتصاعد التوتر يومًا بعد يوم على الجبهة اللبنانية، حيث بلغ التصعيد ذروته هذا الأسبوع، خصوصًا بعد الهجوم على صفد، حيث لجأت إسرائيل إلى الردّ “الانتقامي” بمجازر سقط ضحيّتها المدنيّون بالدرجة الأولى، وعلى رأسهم النساء والأطفال الأبرياء.
وجاء النهج الإسرائيلي في الردّ على هجوم صفد مشابهًا، ولو بنسب متفاوتة، للتكتيك الذي تعتمده إسرائيل في غزة، حيث يكاد المدنيّون يختصرون “بنك الأهداف” منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول الماضي، بعدما أظهرت الوقائع أنّ الهدف الجوهري للحرب قد يكون تحويل القطاع إلى مكان غير صالح للسكن، بمعزل عن الهدف المُعلَن، والذي يصفه الكثيرون بغير الواقعي، أي “القضاء على حركة حماس”.
لكنّ اشتعال جبهة الجنوب جاء متزامنًا أيضًا مع كلامٍ واضحٍ لـ”حزب الله” حول كلّ ما تمّ تداوله عن أفكار مطروحة للتسوية، حيث كان لافتًا تصويب أمينه العام السيد حسن نصر الله على الموفدين الدوليين الذين أتوا إلى لبنان في الآونة الأخيرة، والذين لم يكن يشغل بالهم سوى “حماية إسرائيل” على حدّ قوله، وهو ما أوحى بـ”انتكاسة” على خطّ المفاوضات، ولو أنّه حرص على القول إنّه ليس “معنيًّا” بالتعبير عن الموقف الرسمي للبنان.
يطرح هذا التزامن بين التصعيد المرشح للتفاقم أكثر فأكثر في الساعات والأيام القليلة المقبلة، ومواقف “حزب الله”، معطوفة على المواقف الإسرائيلية عالية السقف، والتي يمكن أن تندرج في خانة “الحرب النفسية” إن لم يكن أكثر، إلى طرح العديد من علامات الاستفهام، فكيف يُفهَم “اشتعال” جبهة الجنوب بهذا الشكل وفي هذا التوقيت؟ وهل يمكن الجزم انطلاقًا ممّا تقدّم، أنّ زمن “المفاوضات” قد ولّى، وأنّ سيناريو “الحرب” هو الذي يتقدّم؟!.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ التصعيد الذي شهدته “جبهة الجنوب” هذا الأسبوع شكّل “خرقًا خطيرًا” لكل قواعد الاشتباك، وإن بقي إلى حدّ بعيد “مضبوطًا” بوتيرة العمليات والعمليات المضادة، بعيدًا عن الانزلاق في حرب شاملة يبدو أنّ الطرفين لا يزالان حريصَين على تجنّبها، ولو جاهرا بعكس ذلك في بعض الأحيان، إلا أنّهم يشيرون إلى أنّ لا شيء يبدو “مضمونًا” إذا ما استمرّ تصاعد العمليات بالشكل الذي حصل في الأيام الأخيرة.
يشرح العارفون في هذا السياق، أن ثمّة شيئًا ما تغيّر في طريقة التعامل الإسرائيلي مع “جبهة” جنوب لبنان، حيث ما عاد بالإمكان فعلاً الحديث عن “عمليات مضبوطة”، أو حتى عن “تحييد” للبنان دولةً وشعبًا عن نطاق الهجمات، وهو ما يتجلّى بوضوح في توسيع العمليات خارج النطاق الحدودي الضيّق، أو حتى الاستهداف المحصور بشخصيّات معيّنة محسوبة على “حزب الله” أو حركة “حماس”، مع تجنّب وقوع أيّ “أضرار جانبية”.
بهذا المعنى، قد تكون مجزرة النبطية بصورة خاصة، وسائر المجازر التي وقعت في الأيام الأخيرة في الصوانة وعدشيت وغيرهما من القرى الجنوبية، أخطر من ضربة الضاحية الجنوبية لبيروت نفسها، وهو ما تكرّسه “الفاتورة الثقيلة” التي دفعها المدنيون أساسًا، خصوصًا في النبطية، حيث “أبيدت” عائلة كاملة، إن جاز التعبير، في منطقة كانت مصنّفة “آمنة”، وقد نزح إليها الهاربون من القصف الإسرائيلي للمناطق الحدودية.
وإذا كان هناك من يضع هذه المجازر في خانة “الحرب النفسية” القائمة أساسًا بين “حزب الله” وإسرائيل منذ ما قبل الثامن من تشرين الأول، وهو ما يسري أيضًا على التصريحات “المُبالَغ بها” لبعض المسؤولين الإسرائيليين، كوزير الدفاع الذي ألمح إلى إمكانية “ضرب” العاصمة بيروت، فإنّ العارفين لا يستبعدون أن تكون أيضًا جزءًا من تكتيك إسرائيلي يقوم على “الضغط” على الحزب، عبر “ترهيب” ما تسمّى “بيئته الحاضنة”، وربما “إخضاعها”.
لكن، أبعد من “الحرب النفسية”، ثمّة من يعطي التصعيد في الجنوب أبعادًا تجد تجلياتها في السياسة بالدرجة الأولى، تزامنًا مع ما يوصف بـ”تعثّر” مفاوضات القاهرة حول الهدنة في غزة، في ظلّ تمسّك “حزب الله” بـ”ترابط” الجبهتين، ولكن أيضًا “تعثّر” المفاوضات المرتبطة بالتسوية في لبنان نفسه، كما فُهِم من كلام الأمين العام للحزب قبل أيام، حين أكّد أنّ إطلاق النار على خط جبهة لبنان، لن يتوقف إلا بالتوازي مع وقف كامل لإطلاق النار في غزة.
تتفاوت التحليلات والتفسيرات لما قاله السيد نصر الله بهذا الخصوص، لكنّها “تتقاطع” على قناعة بأنّ المفاوضات لم تبلغ “خواتيمها السعيدة”، خلافًا لكلّ ما أشيع، وهو ما فُهِم مثلاً من التصويب على الموفدين الدوليّين، الذين لم يقدّموا وفق قوله ضمانات فعلية مقابل ما طالبوا الحزب به، مكتفين بالوعود، على طريقة “الدفع سلفًا، وبعد ذلك نرى”، وهو ما دفع بالرجل إلى الاستعانة بتعبير “عالوعد يا كمّون” لتلخيص المشهد.
وفي هذا السياق، ثمّة من يضع التصعيد في إطار “رفع الأسقف”، باعتبار أنّ هناك قناعة بأنّ أيّ “تسوية” يمكن أن تحصل سيسبقها “اشتباك” من النوع “الثقيل” من دون أن يصل بالضرورة إلى “الحرب الموسّعة والشاملة”، ولو أنّ بعض الأوساط تتحدّث عن “ضغوط” في داخل إسرائيل تدفع نحو توسيع الحرب مع لبنان، خصوصًا أنّ مستوطنات الشمال باتت فارغة، وسكانها لن يعودوا قبل إيجاد “حل جذري” لمشكلة صواريخ “حزب الله”.
استنادًا إلى كلّ ما تقدّم، يبدو أنّ كلّ السيناريوهات حول جبهة لبنان تبقى مفتوحة، حتى إثبات العكس، فالانزلاق إلى الحرب يبقى احتمالاً، يتصاعد أكثر فأكثر مع كلّ مجزرة تحصل، تمامًا كما أنّ “التسوية” تبقى ممكنة، طالما أنّ باب “المفاوضات” مفتوح، وبرضا الطرفين، ولو أن معطيات مثل هذه التسوية لم تنضج بعد، كما تؤكد المعطيات والوقائع، ليبقى السؤال الكبير: هل لبنان جاهزٌ فعلاً للخيارين، وسط أزماته وانقساماته التي لا تنتهي؟!.