يقبع لبنان فوق فوهةِ حربيْن وعلى صفيحِ ارتطاميْن… حرب «إسنادٍ» عسكرية في الجنوب تتناسل منها حربُ استنزافٍ اقتصادية لـ «بقايا» مقوماتٍ تراوح في القعر… وخشيةٌ متعاظمةٌ من ارتطامٍ حربيّ كبير تلوّح به اسرائيل، في موازاة مخاوف من بلوغ أزماتٍ شاملة عمرها نحو خمسة أعوام مرحلةَ الارتطام الحُرّ.
وسط هذه العوامل «الرباعية الدفع» في اتجاه الأسوأ (الحربان والارتطامان)، بدأ تسليطُ «العدسات» على الكلفة الاقتصادية للمواجهات الدائرة على جبهة جنوب لبنان وارتداداتها على الواقع الذي يزداد قتامةً مع احتمال استمرار المواجهة إلى أمدٍ غير معروف وانزلاقها إلى حرب شاملة، الأمر الذي يستدعي التدقيقَ في «الفاتورة» التي يمكن أن يتكبّدها لبنان.
«الراي» حملتْ هذا الملف المُرهِق بأخطاره وأكلافه، إلى خبيريْن اقتصادييْن، حاولا تفكيكَ لوحة الخسائر بالمعطيات والأرقام واستشراف ما قد يرتّبه إطالة أمدها أو تَمَدُّدها.
يقول الباحث الاقتصادي والمالي محمود جباعي: «لا شك في أن الحربَ الدائرة في جنوب لبنان كبيرةٌ وتمتدّ على مساحة شاسعة من أراضي الجنوب، من رأس الناقورة الى مزارع شبعا، وبعمق حوالي 7 كيلومترات باتجاه بيروت في خط يتعرض يومياً للقصف وللدمار المباشر من العدو الإسرائيلي. والمقاومةُ اللبنانية بكل أطيافها تقوم بحرب حقيقية في الجنوب دفاعاً عن لبنان وليست حربَ رفْع عتبٍ كما يصوّرها البعض».
وانطلاقاً من هذه الحقائق التي يَحرص جباعي على تأكيدها قبل الغوص في أي كلام اقتصادي يرى «أن لا تقديرات واضحة لكلفة الحرب الدائرة، ولا يمكن إحصاء الأضرار وتقدير كلفتها قبل أن تنتهي الحرب. وهذه التقديرات والاحصاءات قد ترتفع أو تنخفض قليلاً مع انتهاء الحرب حين يَظهر حجم الدمار الحقيقي على الأرض نتيجة القصف الإسرائيلي ويتم إجراء مسح شامل وواضح يحدد الكلفة الحقيقية للأضرار».
ويضيف: «تقديراتي أن الخسائرَ المباشرة تُقدَّر بأكثر من مليار دولار تقريباً، وهي خسائر مباشرة وغير مباشرة ناجمة عن الدمار الذي أصاب الجنوب. فالعدو الإسرائيلي قصف ودمّر 4000 منزل وبنى تحتية وكهرباء وطرقاً وأراضي زراعية شاسعة، وقضى على المحاصيل الزراعية للجنوبيين في شكل شبه كامل. لكن هذا الرقم ليس ثابتاً وهو يرتكز على تقديراتٍ جغرافيةٍ مبنية على حجم المساحات المستهدَفة. من جهة أخرى ثمة 80000 نازح تركوا قراهم الجنوبية ولجأوا الى أماكن إيواء أخرى وتُقدَّر كلفة إيواؤهم سكنياً بما بين 15 الى 20 مليون دولار، فيما كلفة تأمين معيشتهم واحتياجاتهم الأساسية تُقدَّر بعشرات الملايين شهرياً، لتأتي هذه الأرقام وتضاف إلى مجموع الخسائر المباشرة الناجمة عن الحرب».
أما الخسائر غير المباشرة على صعيديْ الجنوب ولبنان ككل فتراوح بين 500 و600 مليون دولار بسبب إقفال مؤسسات كثيرة سياحية وتجارية في الجنوب وتَراجع الموسم السياحي على صعيد لبنان، كما يشرح د. جباعي «فالسياحة تراجعت والمغتربون ولا سيما أبناء الجنوب منهم الذين كانوا يشكلون غالبية الوافدين الى لبنان في موسم الصيف والأعياد لن يأتوا إذا استمرّ الوضع على حاله. ووفق الهيئات الاقتصادية التأثيرات تتعدى الجنوب لتطول القطاعات السياحية والصناعية والزراعية والخدماتية، وحتى قطاع التأمين».
كما يتوقّف الخبير الاقتصادي عند «أن نسبة الانكماش التي حصلت بفعل الحرب وحالة اللااستقرار راوحت بين 1 و 1.5 بالمئة في الأشهر الأربعة الأخيرة في حين ان الناتج المحلي اللبناني كان يشهد ارتفاعاً وكان يُتوقع أن يصل الى 3.5 أو 4 بالمئة. لكنه لم يتعدّ 2 الى 2.5 بالمئة مع بداية العام الجديد بفعل الانكماش الحاصل»، مشيراً إلى أن «حالة اللا استقرار أثّرت أيضاً على الاستثمارات التي تُعتبر مرادفةً للاستقرار وأدّت الى جمود فيها تُقدَّر تأثيراته بين 150 الى 200 مليون دولار». ويضيف: «من جهة أخرى ثمة ناحية اقتصادية تأثرت بشكل واضح وتكبّدت خسائر، وهي سوق العقارات في الجنوب التي تراجعت بنسبة 30 الى 40 بالمئة حيث أن أراض شاسعة نزلت قيمتها كثيراً (…) ولكن وقد ترتفع الأسعار بسرعة مجدداً وخصوصاً إذا انتهت الحرب وذهب لبنان نحو اتفاق حول النفط والغاز واستخراجهما».
رغم كون الحرب في لبنان محصورة في منطقة الجنوب اللبناني إلا أن تأثيراتها الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة تطول كل لبنان، وفق ما تؤكده لـ «الراي» الخبيرة الاقتصادية سابين الكيك: «التكلفة المباشرة هي نتيجة الدمار الحاصل في البيوت والمباني والبنى التحتية إضافة الى تضرر الأراضي الزراعية وحالة النزوح التي حصلت من المناطق الحدودية. أما التكلفة غير المباشرة في الجنوب فهي تَعَطُّلُ الحركة الاقتصادية وتوقف المدارس وانكفاء الأعمال. وإذا قيست على صعيد لبنان فالتكلفة غير المباشرة أصابت القطاع السياحي وأوجدتْ حالة من القلق والإرباك في كل القطاعات الاقتصادية».
وتكشف الكيك «أن تكلفة الحرب كما يقدّرها الخبراء تراوح بين مليار و1.5 مليار دولار، وقد يكون الرقم أقلّ أو أعلى بقليل، ولكن مهما يكن كان يفترض بالحكومة اللبنانية أن تأخذه في الاعتبار عند مناقشة الموازنة لعام 2024. لكن يبدو وكأن ثمة إنكاراً للواقع. فالحكومة لم تحتسب الأضرار المباشرة للحرب في موازنتها، كما أنها لم تأتِ على سيرة الأضرار غير المباشرة».
وتضيف: «تَعاطي الحكومة اللبنانية اليوم مع تكلفة الحرب الدائرة في الجنوب ومع الشأن الاقتصادي في لبنان يبدو وكأنه فقط لتمرير الوقت، لا بل أن الحكومة تبدو وكأنها تُخْفي التكلفة الحقيقية للحرب ولا تحتسب تكلفتها الاقتصادية، إذ لم نسمع عن خطة مالية لمواجهة التداعيات أو عن رؤية اقتصادية للبلد ولا خطط للإصلاح ولإعادة إحياء الاقتصاد. وأرقام الموازنة بسيطة جداً ومنخفضة، وحالة الانكماش الاقتصادي كبيرة، والدليل على ذلك رقم الموازنة الذي قارب 3.2 مليار دولار».
ولبنان اليوم تقول الخبيرة الاقتصادية «ليس قادراً على القيام باقتصاده الطبيعي، فكيف باقتصاد حربٍ يكبّده خسائر فوق خسائره وتكلفة قد تتصاعد لأن الحرب يمكن أن تطول، وثمة مخاطر حقيقية من أن تتوسع ولا أفق واضحاً لها».
وإذ تسأل: «ماذا لو استمرت الحرب حتى بهذه الوتيرة؟ ألا يعني ذلك استمرار التكلفة وعدم قدرة لبنان على التحمل في ظل أزمةٍ باتت هيكليةً في هيكل الدولة والاقتصاد؟»، تلفت إلى «أن التكلفة المالية للحرب تساوي بحسب التقديرات نصف الموازنة التي أقرّها مجلس النواب، ومن هنا يبدو لبنان غير قادر على سداد هذه الكلفة وفق ما يتم تقديره اليوم ويحتاج نسبةً إلى حجم اقتصاده إلى وقتٍ طويل وربما سنوات لسداد فاتورةٍ تعادل نصف موازنته فكيف إذا استمرّت الحرب أو تطورت في ظل الكلام عن تَوَسُّعها؟».
وتتوقف عند نقطة مهمة تتمثّل في أنه «في حرب يوليو 2006 كان اتكالنا على المساعدات الخارجية للنهوض، ولكن اليوم لا يمكننا التعويل على هذه المساعدات التي ساهمتْ في إعادة الإعمار لأن علاقاتنا الدولية لم تَعُدْ تسمح بانتظار مساعداتٍ يمكن أن تشكل عصا نستند إليها».