درج”؛ طارق اسماعيل – كاتب لبناني
اجتناب الحروب، وحماية الأطفال كأكثر ضحاياها قسرية، يصطدم برؤية “حزب الله” للصراع مع إسرائيل، الذي تكشفه تغريدة الشيخ شفيق جرادي التي يدّعي فيها “ثبات” أطفال مدارس جنوب لبنان.
كشفت الوقائع الأخيرة للحرب الإسرائيليّة على جنوب لبنان عن ثلاثة مشاهد بصرية قاسية، تشترك الثلاثة بأنها مكاشفة صارخة عن الأطفال بصفتهم أكثر أثمان الحروب قسوة. المشهد الأول، قذيفة إسرائيلية تقتل الطفلة أمل الدر. المشهد الثاني، أطفال مسكونون بالخوف والهلع في إحدى مدارس الجنوب، عقب سماعهم لهدير وقصف من الطيران الحربي الإسرائيلي. المشهد الثالث تغريدة للشيخ شفيق جرادي قارن فيها بين ثبات طلاب مدارس “حزب الله”، وبين أترابهم المرعوبين من الحرب في مدارس أخرى.
المشاهد الثلاث كشفت عن هوة شاسعة بين الأطفال كضحية قسرية للحرب، وبين محاولة عبثية للربط بين الحرب وبينهم، وكما لو أن طفولتهم تشكل إحدى أهم المشاعات التي تقتضيها حرب تكثف عدوانية إسرائيل، بمعزل عن كيفية الانزلاق إليها.
الشائع أن الأعمار بيد الله، لك أمل الدر بددت هذه المقولة، الطفلة الجنوبية، وابنة بلدة مجدل زون، فاضت روحها بقذيفة إسرائيلية حرمتها ما تبقى من حياتها. ابنة السبعة أعوام لم تكن لتختار موتاً دموياً كالذي وقع عليها. كانت على صغرها، وبفطرة الأطفال، تحلم غالباً بمستقبل يهيمن على عقلها الطري، كما عقول أترابها. مستقبل نزعت منه كل آثار الحروب وويلاتها، لكن عمرها الندي والموزع بين الدمى والثياب الجميلة، كان يفترض أن يكمل صيرورته في ملاذ آمن لم يستعصِ على القاتل الذي سفك دمها.
أمل بحكم عمرها، كانت تقيم افتراضاً خارج الوعي الجنوبي المستلب بالحرب. وكانت أيضاً، وبحكم انتمائها، تخضع على الأرجح لانشطار آخر غير انشطار عمرها بقذيفة. كانت طفلة تتنازعهاغالباً مقتضيات كشفيتها المثقلة بالسياسة، وأحلامها المتأتية بالضرورة من النمطية السائدة عن الأطفال وسماتهم.
سقطت كل أحلام أمل الدر دفعة واحدة. أسقطتها إسرائيل التي أسقطت قبلها أحلام أطفال النبطية والصوانة، وكما تُسقط كل يوم أحلام أطفال فلسطين. أن تقتل إسرائيل الطفولة، فرادة أو جمعاً، فهذا لا يعدو عن كونه سياقاً متلازماً مع سيرة إجرامية أفضت الحصانة الأمريكية في تكثيفها رغم الإدانات المتراكمة لها، وآخرها في محكمة العدل الدولية. وهو ما يفترض السعي لتجنيب المدنيين، والأطفال في مقدمتهم، من موقع آخر. الأخير يقتضي نزع هذا الحبل السري بين الحرب، وبين الجغرافيا اللبنانية.
واقع الحال يقول إن أغلبية لبنانية راجحة لا تشاطر “حزب الله” انسياقه إلى هذه الحرب، وواقع الحال هذا لا يبدده استطلاع رأي صادر عن مركز استشاري هو في صلب قرار الحزب. ولنفترض جدلاً صحة الاستطلاع، وأن ٦٠ بالمئة من اللبنانيين يؤيدون دخول “حزب الله” للحرب، فأغلب الظن أن الشريحة المستطلعة (خارج الشيعة) هي شريحة مبسترة، احتكمت إلى رؤية مثقلة بموقعها السياسي الممانع، و بمشاهد القتل الإسرائيلي في غزة أكثر من لبنان، وهو ما يكثف من جديد فكرة اجتناب حرب كان اجتنابها ممكناً..
اجتناب الحروب، وحماية الأطفال كأكثر ضحاياها قسرية، يصطدم برؤية “حزب الله” للصراع مع إسرائيل، والأهم في راهنه الذي تكشفه تغريدة الشيخ شفيق جرادي الأخيرة.
فإن يدّعي جرادي أن أطفال مدارس “حزب الله” يتسمون بالثبات، ينطوي على أمرين متهافتين. الأول، أن أطفال “حزب الله”، ورغم الاشتغال الكثيف على وعيهم، كما على ربطه بالحرب، يخضعون كحتمية مرصودة لما يخضع له الطفل من هلع ورعب. الأمر الآخر، إذا ما أسأنا الظن، أن جرادي الذي يحتل مكاناً مرموقاً في ثقافة “حزب الله”، بدا كمستثمر في الطفولة، وشاطر لسماتها، فقط في سياق رؤية الحزب للحرب مع إسرائيل.
كل حرب هي ولادة للمأساة التي تُثقل بقتل الأطفال، فيما العزل بين الساحات يتبدى وحده مجففاً للمزيد من نُدب الطفولة التي كانت أمل الدر آخرها، وليست خاتمتها على الأرجح.