من سوء الأقدار حتى لا يُقال المؤامرات التي يواجهها لبنان أن تنبت العراقيل في وجه أي باب انفراج يسهم في إنهاضه من محنته الاقتصادية والمالية، ومن بينها توقيف أعمال الاستكشاف والحفر عن الغاز في مياهه الإقليمية، ومن ثم العودة الى المرحلة الأولى من التلزيمات بعد تمنّع شركة “توتال إنرجيز” عن توقيع عقدي اكتشاف واستخراج الغاز والنفط من البلوكين 8 و 10 في 16 شباط الحالي، إثر مرحلة طويلة من المفاوضات بين الشركة ووزارة الطاقة والمياه اتسمت بشراء الوقت من قبل الشركة الفرنسية.
وإذ يحاول وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض تدوير الزوايا وإنقاذ هذا الملفّ الحسّاس الذي رصد له اللبنانيون آمالاً كبيرة، عبر تحضير دفتر شروط جديد يستقطب شركات جديدة مع مهل زمنية معقولة وشروط مقبولة، مع المحافظة على حق لبنان بثروته النفطية، ثمة تساؤلات حول تصرّف الشركة الفرنسية التي انقلبت حماستها التي أبدتها منذ انخراطها في مشروع التنقيب عن النفط في بحر لبنان عام 2018 الى تردّد ومماطلة حتى الانسحاب الأخير!
هنا لا بد من التذكير بأن البلوك رقم 9 الذي أعلنت عن انتهاء أعمال الحفر فيه في 13 تشرين الأول 2023 لم تقدّم عنه حتى الآن تقريرها الفنّي، ولا أي تصوّر علمي عن الطبيعة الجيولوجية فيه، في وقت ما تزال فيه البئر بتصرّفها.
في السابق، وُصّف بلوك 9 بأنه واعد، لتطابق الطبقات الجيولوجية والجيوفيزيائية مع حقل “كاريش” الإسرائيلي الذي تبلغ احتياطات الغاز فيه 1،75 تريليون قدم مكعب.
وكانت هيئة إدارة قطاع البترول – وزارة الطاقة والمياه، قد أشارت في 20 تشرين الاول 2023، الى أنه «بعد استكمال أنشطة حفر بئر الاستكشاف قانا ١/٣١ في موقع الحفر في الرقعة رقم ٩ في المياه البحرية اللبنانية من قبل المشغل شركة «توتال إنرجيز»، وبعد استكمال جمع البيانات والعيّنات الناجمة عن أنشطة الحفر، وبانتظار التقرير التقني المفصّل الذي تعدّه «توتال»، والتزاماً بمبادئ الشفافية التي دأبت الوزارة وهيئة إدارة قطاع البترول على اتباعها… بالرغم من عدم حصول اكتشاف لمواد هيدروكاربونية نتيجةً لحفر هذه البئر، فإن البيانات والعيّنات التي تمّ الاستحصال عليها من داخل البئر ستشكّل أملاً جديداً ومعطيات إيجابية لاستمرار عمليات الاستكشاف في البلوك 9 والبلوكات الاخرى وخاصة تلك المحيطة ببلوك 9 كما أنها تعطي قوة دفع إضافية للاستكشاف في البحر اللبناني”.
ما هي نيّات الشركة الفرنسية؟
زهر
في هذا السياق، يقول الاختصاصي في النفط والغاز عبود زهر: “إن مدة العقد مع الشركة بشأن البلوك رقم 9 ينتهي مفعولها في أيار 2025. وهناك مهلة لتقديم التقرير النهائي خلال 6 أشهر من انتهاء اعمال الحفر في البئر أي نيسان 2024.
ولكن ما يدعو الى الشكّ في مماطلتها هو امتناعها عن تسليم البلوك 9 الى الدولة اللبنانية، علماً بأن النتائج المحصّلة عن عملية حفر أي بئر في أي بلوك تساعد في الاستكشاف في بئر أخرى بعد التعرّف إلى طبيعة الرقعة الجيولوجية.
وما يمكن استنتاجه أن شركة “توتال إنرجيز” ليس عندها أي نيّة لحفر بئر ثانية في البلوك 9 حتى تاريخه. فالتحضيرات اللازمة لأي عملية استكشاف تتطّلب فترة سنة وهذا لم يحصل. ويبدو أن “توتال” محصّنة بالعقد وما من إمكانية لدخول غيرها الى دورة التراخيص”.
وفي ما خصّ البلوكين 8 و10 يرى زهر “أن الشركة الفرنسية لم تقدّم أصلاً العرض المشجّع للدولة اللبنانية بعدما كانت الوحيدة في دورة التراخيص، سواء على المستوى الاقتصادي أو المالي أو الزمني. وبالتالي، لم تتجاوب مع أي من التعديلات التي طلب إدخالها مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الطاقة.
أما الأسباب الكامنة وراء تراجعها عن أعمال الحفر والاستكشاف في المياه اللبنانية فهي ربما مرتبطة بتقديراتها لحجم مكامن الغاز في البحر، وهي تراوح بين 2 و4 تريليون قدم مكعّب استناداً إلى داتا المسوحات الثلاثية الأبعاد التي أجريت لهذه المكامن. إنها مكامن صغيرة قياساً على الكلفة المرتفعة والمترتّبة عن أعمال الحفر والتنقيب في المياه العميقة، وصولاً الى التطوير وضخّ الغاز، في ضوء توقّعات لكمّيات متواضعة الى حدّ ما. ويتزامن ذلك مع المخاطر السياسية والأمنية المحدقة بلبنان، الى جانب واقع الإدارات المشلولة فيه. وبالمقابل، فإن سير الأعمال في بلد آخر كقبرص ينعم بالسلام والاستقرار، وفيه انتظام كامل للمؤسسات يكون أسهل، وإن كانت مكامن البلوكات فيه من الغاز بنفس الحجم”.
ويخلص زهر: “من هنا، فإن تعديل دفتر الشروط أصبح ضرورياً اليوم بما يسمح باستقدام شركات أخرى عالمية عاملة في حقل النفط، قد لا تحمل محفظة كبيرة من الأعمال في سجلّها وقدرات مالية بحجم شركة «توتال إنرجيز»، ولكنها تملك اللازم من الخبرات والكفاءات فيمكنها تشكيل كونسورتيوم في ما بينها ومن الأفضل أن يكون ثنائياً”.
أما بعد، فإن لبنان على موعد انتظار آخر في أيار 2025، حيث على الشركة الفرنسية اتخاذ القرار إما البقاء في البلوك 9 وحفر بئر ثانية سريعاً وإما التخلّي عنه فوراً. والجدير ذكره، أنها سلّمت في تشرين الثاني الفائت البلوك 4 الى الدولة اللبنانية بعدما تبيّن عدم وجود غاز في المكمن المختار، فيما كان مرجوّاً إقدامها على حفر بئر أخرى في نقطة مختلفة.
بالتأكيد، كل قرار جديد للشركة سيكون مرتبطاً بأي تطوّر جديد في المنطقة المشتعلة اليوم وبمصالحها بالدرجة الأولى.