ربما من غير المفاجئ أن تكون أرقام البطالة في لبنان مرتفعة، أو أنها ارتفعت بعد عام 2019.
وربما لا عجب إذا ساءت أحوال اللبنانيين المعيشية والوظيفية، خلال الأعوام الأخيرة. فعام الـ2019، كان العام المفصلي الذي تلته كل الويلات والمصاعب… والأزمات.
من هنا، لا يشكّل تقرير منظمة العمل الدولية الأخير مفاجأة، من حيث أرقامه ونسبه. فالتقرير الذي حمل عنوان: “التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات عام 2024″، سلّط الضوء على وضع سوق العمل، وأشار الى أن “مجموعة الأزمات التي عصفت بالبلاد أخيراً قد ألحقت ضرراً كبيراً بسوق العمل”.
بالأرقام، يكشف التقرير:
“- معدل البطالة ارتفع من 11.4 في المئة في عام 2019، الى 29.6 في المئة في عام 2022.
– نسبة الـ27.7 في المئة من الذين كانوا منخرطين في سوق العمل في عام 2019، فقدوا وظائفهم.
– انخفضت نسبة عدد الموظفين من إجمالي عدد السكان لتصل الى 30.6 في المئة في عام 2022، مقارنة بـ43.3 في المئة في عام 2019.
– 85 في المئة من اللبنانيين يواجهون صعوبات في تغطية التزاماتهم المالية، فيما 62 في المئة منهم وضعهم المالي صعب جداً”.
فأي قراءة نقدية علمية لهذه الأرقام؟ والاهم أي مؤشر قد تعطيه هذه الارقام للصورة المستقبلية؟
أنماط الوظيفة
ينطلق عميد كلية إدارة الاعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الخبير الاقتصادي بيار خوري من نظرة عامة ليقول: “سوق العمل العالمي شهد تغيرات وتبدلات جوهرية في أنماط الوظيفة، ولا سيما بالنسبة الى القطاع العام، فيما لبنان لم يكن حاضراً لهذه التبدلات قبل عام 2019، بعدما كان القطاع العام يستوعب الكمّ الهائل من البشر”.
وينتقل خوري الى تشريح الواقع اللبناني. يشرح لـ”النهار”: “قبل عام 2019، كانت أنماط الوظيفة في لبنان كالآتي: فئة من اللبنانيين تعمل في الخليج، فئة موظفة في القطاع العام، فئة أخرى تعمل في القطاع الخاص، فئة تعمل في مصالح رديفة أو في مصالح تابعة لأهلها، وفئة تحضّر الماستر لأنها ببساطة، لا تعمل أو لأنها لم تجد وظيفة”.
بعد عام 2019، وما تلاه من تغيّرات “دراماتيكية”، اختلف الواقع. يعلق خوري: “كان القطاع الخاص يعطي نوعاً من الضمانات للموظف، تماماً مثل القطاع العام. هذه الضمانات تؤدّي الى نوع من الخمول أو التراخي، فالموظف عادة يعيش بين حدّي الخوف والطمع، ومبدأ الوظيفة الثابتة يريحه، ما دام يقبض راتبه آخر الشهر، بغض النظر عن إنتاجه. هذا الواقع كان موجوداً في لبنان، ولا سيما بالنسبة الى القطاع العام، مما أدى الى نوع من التراخي. وكانت سياسة القروض والمصاريف تؤمن للموظف أيضاً نوعاً من الحماية والأمان، ولا سيما بالنسبة لمن يقوم ببعض المصالح المستقلة أو المشاريع الخاصة”.
كل هذا النظام انهار. يقول خوري: “بعد عام 2019، انهار النظام الوظيفي في لبنان، لأنه في الأساس، كان نظاماً قائماً على التشوّه، أي على أسس غير سليمة وغير صحية. كل هذه الامتيازات، ولا سيما بالنسبة الى موظفي القطاع العام قد انهارت دفعة واحدة”.
انتفاخ وهزّة!
كان الموظف، وخصوصاً في القطاع العام يعيش من “خيرات” سلسلة الرتب والرواتب والامتيازات. وكان المسؤولون يعدون، مرة بعد مرة، بوقف التوظيف. تارة في مجلس النواب وطوراً داخل مجلس الوزراء. وكل هذه التعهدات والتوصيات طارت في الريح، والنتيجة: انتفاخ حاد للقطاع العام. يرى خوري أن “انتفاخ نظام الوظيفة في القطاع العام كان من النتائج البديهية لانعدام نماذج الكفاية الاقتصادية. لم يكن هناك من أسس سليمة”.
اليوم، السوق بنى نفسه بنفسه، وفق خوري، “بدأ الشباب يبتكرون مشاريعهم عبر المنصّات مثل “التيك توك” أو “الإنستغرام” أو عبر مكاتب الخارج المتخصصة، وبدأ العدد الأكبر منهم يعتمدون على المشاريع لا على مبدأ الوظيفة، أي إنهم يعلمون على الـProject. لقد غابت الوظيفة الثابتة على حساب العقود السنوية، وكأن السوق أعاد تشغيل الشباب بأسس سليمة وابتكارية أكثر. لقد أعيد تشكيل النظام خارج قتل الموهبة أو العقل، كما كان سائداً. ولكن، هل يؤسس كل ذلك لنظام اجتماعي عادل؟ بالطبع، لا”.
يسأل خوري ويجيب بنفسه: “ما فعله السوق بنفسه كان جيداً، إلا أنه غير كافٍ لبناء شبكة الحماية الاجتماعية العادلة التي تبقى من مسؤوليات السلطة أولاً”.
يتابع: “إن منظمة العمل الدولية وغيرها من المؤسسات والمنظمات تنظر الى مبدأ الوظيفة الثابتة، وهذا ما تراجع حتماً في لبنان، في الأعوام الخمسة الأخيرة. لكن من منظار بناء السوق، فثمة هزّة حصلت بعد الانتفاخ القائم، وهذه الهزّة يُفترض أن تكون فرصة للنهوض الحقيقي”.
لكن يا للأسف، تبدو هذه الفرصة غير ناضجة حتى الآن. يعلق خوري: “أكبر دليل، مشروع الموازنة الأخير. كيف أتى؟ بدل أن يبني على أساس العقل والنمو والازدهار، لم يكن سوى مشروع أو أداة لتحصيل مزيد من الضرائب والرسوم، وعلى كاهل المواطن أولاً. لم يكن أداة للنمو، كما تكون موازنات الدول”.
أول مسار في مشوار التعافي أو بناء هذه الحماية الاجتماعية، يُفترض أن يكون، برأي خوري، “نظاماً ضريبياً واضحاً، من حيث التحصيل أولاً والشفافية التي يُفترض أن تكون أساسية في هذا النظام. هذا الأمر وحده يؤدّي الى تأسيس شبكة اجتماعية عادلة تبقى من مسؤولية السلطة. والسلطة حتى الآن غائبة”.
من هنا، لم تأت الهزة أو الصفعة التي تلقاها النظام الاقتصادي أو الوظيفي تحديداً في لبنان، لمصلحة النهوض، ما دامت السلطة عندنا لا تزال هي نفسها: سلطة مرتكبة، وتريد هي نفسها أن تحاسب وتنعش الاقتصاد…! بأيّ قراءة منطقية يجوز ذلك؟!
“النهار”- منال شعيا