أي مصير للودائع بعد قرار مجلس شورى الدولة 

شَكّل قرار مجلس شورى الدولة الذي أيد جمعية المصارف في مطلبها وأبطل قرار الحكومة الذي يلغي ديون مصرف لبنان بالعملات الاجنبية تجاه المصارف بارقة أمل وتفاؤل مشوب بالحذر لدى مصرفيي لبنان والعاملين في الشأنين السياسي والإقتصادي.

القرار كرّس وأعطى قوة ومسندا قانونيا لودائع المصارف في مصرف لبنان، وقطع الطريق موقتا على الدولة أو أي جهة فيها أن تتصرف وتقرر بمفردها مصير “جنى أعمار” اللبنانيين ورؤوس أموالهم ومدخراتهم، ما لم تسعَ بكل ما أوتيت إلى التوافق بشكل أساسي مع أصحاب الحق الفعليين، وهما هنا بالتكافل مصرف لبنان والمصارف.

ولكن، في الشكل عاب قانونيون على الطعن أنه سابق لأوانه، ولأن قرينة “الـشطب” للودائع لم تترجم حتى تاريخه بقرارات ومراسيم او تعاميم عن الجهات ذات الصلة بالموضوع. بَيد انه لا يمكن اعتبار أن ما أقدمت عليه جمعية المصارف من طعن سريع لدى مجلس شورى الدولة “تسرّعا” بقدر ما هو “طعن وقائي” يفرض واقعا جديدا على الساحة المالية والمصرفية، مفاده أن أي عملية جراحية أو تجميلية أو حتى علاجات روتينية في القطاع المصرفي، توجب على الجميع فهم وإدراك أنه لا يمكن أن تكون ذات فائدة ما لم تأتِ كنتيجة حتمية لحوار مسؤول يجمع بين الأفرقاء الأساسيين الثلاثة، الدولة بمسؤوليتها في تحمّل ما ارتكبته، والمصارف الباحثة عن أي أمل يبعد عنها كأس الإفلاس، وأخيرا مصرف لبنان الذي يعيش ويحيا على أمجاد إندثرت مع الليرة.

أما في المضمون، فإن القرار تحوّل إلى مستند قانوني، يمكن للمصارف والمودعين على حد سواء إستخدامه أمام المراجع القضائية المحلية والدولية، لإثبات الحقوق، ودفع السلطة اللبنانية الى الإعتراف بأن الباب موصد أمامها حتى الآن بشكل مُحكم، ولا يمكن لأحد الدخول منه أو عبره للتلاعب بمصير القطاع المصرفي وودائعه، والهروب من تحمّل المسؤولية المثبتة بالوقائع وفي متن القرار الأخير لمجلس شورى الدولة.

طعن بقرار غير قابل للطعن!
ولكن، ماذا في أبعاد قرار مجلس شورى الدولة؟ توضح المحامية الدكتورة جوديت التيني ان “القرار الذي طعنت به جمعية المصارف هو قرار غير قابل للطعن امام مجلس شورى الدولة لانه لا يشكل قرارا اداريا نافذا، فهو ليس عملا منفصلا ((acte detachable عن مقررات مجلس الوزراء لكي يجوز الطعن به، فيما مقررات مجلس الوزراء عموما غير قابلة للطعن طالما لم تترجم في مراسيم او لم يعطِها القانون قوة النفاذ بذاتها. وتاليا لا يصح القول بشكل مطلق، ان الاجتهاد بعد تعديل الدستور سنة 1990 والصيغة الجديدة للمادة 65، بات يسمح بالطعن بمقررات مجلس الوزراء”.

اذاً، مقررات مجلس الوزراء هي بمثابة اعمال تمهيدية واعلان نيات لحين اتخاذ القرار النهائي وتاليا لا تتمتع بقوة النفاذ، والدليل على ذلك ان مجلس الوزراء في قراره المطعون به كلّف نائب رئيس مجلس الوزراء التفاوض مع صندوق النقد الدولي والاخذ بملاحظات الوزراء حول الاستراتيجية المعتمدة، ما يعني انها ليست نهائية ولا تشكل قرارات نافذة، مع الاشارة الى ان ايجاد الحل اللازم لمشكلة الودائع والمصارف يكون اخيرا في مجلس النواب من خلال اقرار القانون اللازم.

وفيما تتمسك جمعية المصارف في ادلاءاتها بمسوغ ان الدولة صادرت الودائع وانتهكت حق الملكية وان مصرف لبنان هو مصرف الدولة، وان الدولة مسؤولة بمفردها عن الخسائر وردّ الودائع، إلا أن التيني تؤكد أنه “فات جمعية المصارف ان عليها ان تتقيد بالمادة 690 وما يليها من قانون الموجبات والعقود حول عقد الوديعة وموجبات الوديع (المصرف) بالمحافظة عليها وردها كما هي، والمادة 156 من قانون النقد والتسليف التي توجب على المصارف ان تراعي في استعمال الاموال التي تتلقاها من المودع القواعد التي تؤمن صيانة حقوق المودع، وعليها تحديدا ان توفق بين مدة توظيفاتها وطبيعة مواردها، وقد وظفتها مع مصرف لبنان من دون ان تتيقن من النتائج ولفترات طويلة”. ⁠

ولكن هل حجب مجلس شورى الدولة في قراره مسؤولية المصارف، لانه لم يشر صراحة الى مسؤوليتها؟ تقول التيني: “حتما لا، على اعتبار أنه لا يعود لمجلس شورى الدولة ان يستنتج النتائج القانونية التي تترتب، انما دوره فقط إبطال القرار أو عدم إبطاله، كونه ليس في امكانه الحلول محل الادارة عملا بمبدأ فصل السلطات الدستورية، وهذا مكرس في المادة 91 من نظام المجلس”. من هنا تؤكد التيني أنه “لا يمكن اطلاقا تفسير قرار مجلس شورى الدولة على انه حجب مسؤولية المصارف، فيما الخشية أن يتم تحميل الدولة وحدها مسؤولية رد الودائع، وهذا أمر صعب على الدولة في ظل الواقع السيىء الحالي، بما سيضطرها الى التصرف بأصولها، وهذا سيىء للغاية”.

وفي قراءة قانونية لمشروع قانون معالجة اوضاع المصارف واعادة تنظيمها، تلفت التيني الى أن “المشروع هو بين ودائع مؤهلة وودائع غير مؤهلة، وهذا التمييز غير سليم لانه يظلم المودع الذي حوّل وديعته الى الدولار بعد بدء الازمة حفاظا على قيمتها، وهذا من حقه. ويعطي المشروع الحماية للودائع بحسب تصنيفها مؤهلة او غير مؤهلة، وينص في المادة 48 منه على حماية الودائع المؤهلة حتى 100 الف دولار والودائع غير المؤهلة حتى 36 الف دولار. ويميز المشروع في المعاملة بين المودع في المصارف القادرة على الاستمرار والمودع في المصارف غير القادرة على الاستمرار”. وإذ تسأل “ما ذنب المودع اذا كانت وديعته في مصرف غير قادر على الاستمرار؟”، تلفت الى أن المشروع ينص على سحوبات شهرية (200 الى 800 دولار) تمتد لفترة بين 10 الى 15 سنة، بما يؤشر برأيها بشكل واضح الى انّ حل الازمة بعيد وانّ معاناة المودعين ستطول.

وفي حين أن المشروع ينص على إنشاء صندوق استرداد الودائع، بيد انه يترك أمر هيكليته وآلية عمله لتتحدد بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المال، “علما ان من الواجب ان يتم تحديد ذلك بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب”، وفق التيني التي تشير الى “ايجابيات في المشروع الحالي تتعلق بإعادة رسملة مصرف لبنان من خلال ضخ 2.5 مليار دولار بسندات مالية او ادوات مالية اخرى تحدد لاحقا بقرار من مجلس الوزراء وبناء على اقتراح وزير المال، كذلك على اهمية التخلص التدريجي من رأس المال السلبي المتبقي على 5 سنوات، وعلى تنفيذ اجراءات استرداد الاموال غير المشروعة وفق اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد 2003”.

وتركز على المبادىء والمعايير التي يجب ان يكرسها المشروع الحالي او اي مشروع، وفي مقدمها صون حقوق المودعين وتكريس تراتبية المسؤوليات وهرميتها، بدءا من مسؤولية المساهمين في المصارف واصحابها. كذلك تكريس المساواة بين الودائع دونما تفريق بين غير مؤهلة (قديمة) ومؤهلة (جديدة) و”فريش” او مجمدة او سواها من المعايير، فيما المعيار الوحيد الذي يجب الاستناد اليه هو مشروعية الوديعة، اي اذا كانت محققة بصورة مشروعة ونظيفة وليس مثلا بأفعال فساد وتبييض اموال. وهنا من الضروري تطبيق قوانين مكافحة تبييض الاموال والفساد السارية المفعول. كذلك تركز التيني على أهمية “تمويل صندوق استرداد الودائع من الاموال المحصلة من الفساد والاموال المهربة الى الخارج”.

ايجابيات قرار “الشورى”؟
أما خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد الدكتور محمد فحيلي فيرى في القرار الأخير لمجلس شورى الدولة ايجابيات، منها “تأكيده أن ثمة التزامات لمصرف لبنان تجاه المصارف التجارية ومن غير الدستوري إعفاؤه منها، وثمة مسؤولية للدولة في إعادة رسملة المركزي عملا بقانون النقد والتسليف”. ولكن بمعزل عن هذه الايجابية، يعتبر فحيلي أن “لا قيمة لهذا القرار، وأيضا لا يعوّل على إنتاجية قرارات مجلس شورى الدولة في ظل منظومة سياسية تفصّل القرارات، حتى القضائيه منها، وتخيطها على قياس مصالحها”، لافتا في السياق الى أنه “سبق للسلطة القضائية الأعلى في البلاد أن ألغت تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 151، ولكن المصارف واصلت العمل به على رغم أن صلاحيته انتهت في نهاية العام 2023”. كذلك أشار الى ان “ثمة قرارات صدرت عن محاكم عدة في لبنان لمصلحة مودعين وضد مصارف و/أو مصرفيين لم تُنفذ حتى اليوم”. ووفق فحيلي، “عندما يكون الحكم والحاكم شريكا في الأزمة وله دور فاعل في مسبباتها، فإنه من الصعب جدا أن يدفع باتجاه الحلول العادلة، وما تفسده السياسة لن يصلحه القضاء في لبنان”. وفي حين رأى أن “الحلول والمعالجة للأزمة تكون من خلال مبادرات يطلقها كل مكون من مكونات القطاع الخاص التي أثبتت قدرة استثنائية على الصمود والتأقلم مع المتغيرات الاقتصادية والسياسية والدستورية والأمنية وتداعياتها”، قال: “أنا على يقين بأن كل مصرف على حدة باستطاعته إطلاق عجلة إعادة ترميم الثقة بينه وبين المجتمع اللبناني، خصوصا المصارف التي تستوفي شروط الإستمرار في خدمة الإقتصاد”.

ويرى فحيلي أن الوقت والظروف الإقتصادية لا تساعد في إطلاق عجلة إعادة هيكلة المصارف اليوم، مستندا في رأيه الى أن “إعادة هيكلة المصارف القادرة على الإستمرار في خدمة الإقتصاد تستوجب توافر موارد، وهذه الموارد صعب الحصول عليها اليوم لأن إعادة الهيكلة لا تضمن سلامة المصرف في ظل استمرار انعدام الثقة”، كذلك فإن “معالجة المصارف المتعثرة اليوم من خلال الإستحواذ غير ممكن بسبب عدم توافر الموارد واستمرار عامل انعدام الثقة. اما من خلال التصفية فسيحدِث هذا صدمة سلبية قاسية بسبب طرح موجودات للبيع”.

 “النهار”- سلوى بعلبكي
 

Exit mobile version