تأخير دفع رواتب موظفي القطاع العام لهذا الشهر كان ظاهرة غريبة، وغير معهودة، رغم الزيادات التي أقرها مجلس الوزراء لهؤلاء في جلسة 28 فبراير، بحيث تضاعفت معاشات المتقاعدين 9 مرات، ويحصل الذين ما زالوا في الخدمة الفعلية على هذه الزيادة إضافة لبدل نقل يتراوح بين 8 و15 صفيحة بنزين شهريا وفقا لفئة الموظف، ولهم بدل إنتاجية.
يقول متابعون على معرفة بتفاصيل الحراك المطلبي للموظفين والمتقاعدين ـ لاسيما العسكريين منهم ـ أن هناك «قطبة مخفية» في التعامل مع الملف، وجهات نافذة لعبت دورا مقصودا في تأخير دفع الرواتب لهذا الشهر، رغم أن الزيادات لن تضاف اليها، لأن الإضافات التي أقرها مجلس الوزراء ستدفع لهم بمفعول رجعي من 1/1/2024 بعد اعداد الجداول وصدور المراسيم اصولا. وتأخير صرف المعاشات لم يكن فقط بسبب الإضراب، بل كان بمثابة رسالة من المسؤولين، ردوا فيها على البعض من حراك المتقاعدين ومن الموظفين، وفحواها أن الأعمال التعطيلية الخشنة تضر بمصلحة الجميع، وهي تؤدي إلى حرمان الكل من رواتبهم، بسبب عدم قيام المختصين بتوليف جداول الرواتب، وبسبب تراجع عائدات الدولة الناتجة عن التعطيل.
وإذا كان بعض رموز الحراك المطلبي تجاوزوا الحدود في تسكير الطرقات وشل الدوائر الحكومية، لكن حكومة تصريف الأعمال، او بعض النافذين في الوزارات المختصة، قابلوا الخطأ بخطيئة أكبر. لأنهم ردوا على الاحتجاجات بإجراءات لا تتوافق مع مبدأ المسؤولية العامة التي تفرض على الذين يتولون ادارتها التعالي عن ردة الفعل، او الانتقام، والدولة لا يجوز أن تعاقب أبناءها لأنهم يطالبون بحقوقهم المشروعة، بعد أن أصيبوا بنكبة معيشية قاسية، بحيث تراجعت مداخيلهم أكثر من 40 ضعفا عن قيمتها السابقة.
واجراءات حكومة تصريف الأعمال، لها من يدافع عنها في أوساط النافذين، كما في أوساط الهيئات الاقتصادية والمصرفية، لأن هؤلاء يخافون من تكرار تجربة العام 2017، بحيث أدت مدفوعات سلسلة الرتب والرواتب التي لم تكن متوافرة من عائدات الدولة إلى زيادة التضخم (كما يقول هؤلاء). ومداخيل الدولة حاليا لا تكفي لتغطية كلفة رواتب القطاع العام التي ناهزت 10700مليار ليرة لبنانية شهريا بعد إضافة الزيادات التي وصلت إلى 2900 مليار، وإذا لم تجهد الدولة في زيادة التحصيلات وفق ما ورد في بنود الموازنة، فإنها ستصل حكما إلى حالة عجز، ومصرف لبنان الذي يملك قيمة تغطية الرواتب لثلاثة أشهر بالدولار الأميركي على سعر صيرفة (89500 ليرة مقابل الدولار الواحد) لا يمكنه أن يقوم بالمهمة بعدها إذا لم تتحسن العائدات المالية العامة، والمصرف أعلن أنه لن يقدم على اقراض الحكومة، ولا على تغطية أي عجز كما كان يحصل قبل شهر أغسطس 2023.
والقطبة المخفية تتمدد ايضا إلى طريقة التعامل مع بعض الدوائر الرسمية المنتجة، والتي تجبي أموال طائلة لخزينة الدولة، فهي شبه معطلة، وغالبية من الرأي العام تتحدث عن شكوك في أداء بعض القيميين على هذه القطاعات، لاسيما في مكاتب جباية رسوم الميكانيك وتسجيل السيارات وفي أمانات السجل العقاري في محافظة جبل لبنان، وفي بعض الصناديق المالية في الأقضية. ويتداول المعنيون اتهامات تطال بعض القضاة الذين أوقفوا بالجملة موظفي هذه الدوائر، ومنهم من برأتهم المحكمة من التهم التي ألصقت بهم، كما يطال التشويش دور مسؤولين نافذين لديهم القدرة على تصويب الأمور، ولم يفعلوا. وخطبة البطريرك بشارة الراعي واضحة في هذا السياق، وتؤكد في العلن ما يقال في السر أحيانا.
وبالتوازي مع هذه الإخفاقات، تبين المؤشرات الاقتصادية تراجعا في نسبة النمو، ففي القطاع السياحي وحده، يقدر رئيس تجمع أصحاب المؤسسات السياحية جان بيروتي الخسائر في الخمسة أشهر الماضية بما يزيد عن ملياري دولار، بسبب الحرب في الجنوب ومن جراء تفاقم الأزمة السياسية في الداخل.
ناصر زيدان – الانباء