لم يُثر النائب فيصل كرامي خلال استقباله وفوداً شعبية موضوع مافيا مولّدات الكهرباء في طرابلس من فراغ أو بشكل مفاجئ. وهو اتصل بوزير الاقتصاد شاكياً، ومطالباً بضبط التسعيرة وتركيب العدّادات. لكن ما خُفيَ هو أعظم. لأنّ أصحاب المولّدات يتهرّبون من الضرائب الجديدة بمئات ملايين الدولارات. تعاونهم مجموعات فاسدة في السلطات المحلية. موضوع مافيا المولّدات في طرابلس يعدّ من المواضيع التي لا ينفكّ أهل المدينة يتداولونه في يوميّاتهم. إذ يبدون تذمّرهم من الديكتاتورية التي يفرضها أصحاب المولّدات في التسعير وساعات التغذية. وينتقدون أسلوب التعامل الفوقيّ “الديكتاتوري”، وسط غياب تامّ للأجهزة الرقابية.
التوقيت الذي اختار فيه كرامي إثارة الموضوع يرتبط بما لمسه بنفسه، وأبعد منها في عملية قوننة وتشريع المولّدات. داعياً إلى تسجيل كل صاحب موّلد كمؤسّسة رسمية في وزارة المالية، وهو ما يشكّل فرصة رقابية ثمينة للدولة ومؤسّساتها من أجل مساواة طرابلس على الأقلّ بما هو معمول به في المناطق الأخرى ولا سيّما القريبة. وذلك لفرض ضرائب على الأرباح المهولة التي يجنيها هؤلاء يومياً.
الوثيقة “الفرصة”
حوّلت وزارة المالية مولّدات الكهرباء على الدراسة، تمهيداً لتكليفها بالضريبة، للمرّة الأولى منذ نشأة هذا القطاع. وذلك ضمن الاستراتيجية التي تتبعها منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في لبنان. وهي البحث عن مصادر دخل ولو على طريقة “حسابات الدكّنجي”..خصوصاً بعدما أصبح هذا القطاع عمليّاً الناظم لإنتاج وتوزيع الكهرباء في لبنان.
هذا ما يفرض على أصحاب المولّدات في طرابلس إنشاء مؤسّسة لكلّ واحد منهم، وتسجيلها في الماليّة. فتغدو كياناً رسمياً يتوجّب عليه تأدية ضريبة وفق الربح المقطوع حدّدتها وزارة المالية بنسبة 50% على المداخيل الصافية المحقّقة من “إنتاج وتوزيع الكهرباء بواسطة مولّدات خاصة”. كما فرضت أيضاً تأدية هذه الضريبة بمفعول رجعي عن السنوات السابقة لحدود سنة 2014.
هنا تبرز إشكالية أنّ هذا القطاع، وخاصة في مناطق الأطراف، نما بقوّة نفوذ وعضلات كلّ واحد على حدة. فكيف يمكن معرفة متى بدأ أيّ صاحب مولّد نشاطه؟ وكم عدد المولّدات لديه؟ هل هناك أيّ وثائق رسمية يمكن الاستناد إليها؟
حسب المعلومات، فإنّ قوى الأمن الداخلي أجرت كشفاً عدّة مرّات، ولدى كلّ فصيلة محاضر عن المولّدات الموجودة ضمن نطاقها
. لكنّ المالية ارتأت تجاوز ما في جعبة قوى الأمن. وفرضت على كلّ صاحب مولّد الاستحصال على إفادة من البلدية عن عدد المولّدات التي يملكها وقوّتها التي تلعب دوراً في تقدير المداخيل، ومتى بدأ العمل بكلّ واحد منها.
تشير مصادر في الدوائر الماليّة في الشمال إلى أنّ “الصداع المزمن الذي بدأ مع الاتصال بكلّ صاحب مولّد لتبليغه بتحويله إلى الدراسة، هو الذي دفع بالماليّة إلى رمي هذا الحمل عن كاهلها. فألقته على عاتق البلديّات”. أمّا عن سبب عدم الاستناد إلى محاضر قوى الأمن، فذلك عائد إلى “إفساح المجال أمام أصحاب المولّدات في طرابلس لترتيب أوضاعهم”، حسب المصادر نفسها. وهو ما حصل عملياً.
الغطاء السياسيّ والأمنيّ
يشكّل أصحاب المولّدات في طرابلس شبكة ذات طابع ميليشاوي. قبل سنوات قامت استخبارات الجيش بالتدخّل للحدّ من الإشكالات في هذا القطاع، التي اتّخذ بعضها طابعاً دموياً. فأشرفت على ضبط النزاعات وترسيم حدود الشبكات عبر وثيقة وقّعها الجميع. بيد أنّ أصحاب المولّدات استغلّوا هذه الوثيقة لترسيخ دعائم ديكتاتوريّتهم. وللإيحاء بأنّهم يحظون بدعم استخبارات الجيش لمنع دخول أيّ وافد. ولحظر انتقال أيّ مشترك .من مولّد إلى آخر. واتفقوا فيما بينهم على التسعيرة وساعات التغذية.
تفاقم الأمر أكثر مع اندلاع أزمة المحروقات. فبعدما امتنعوا عن الالتزام بقرار وزارة الاقتصاد القاضي بإلزامية تركيب العدّادات، ما خلا قلّة محدودة استطاعت الحصول عليها، امتنعوا أيضاً عن الالتزام بالتسعيرة الرسمية الشهرية التي تصدرها وزارة الطاقة. فقد بلغ سعر الأمبير في طرابلس 25 دولاراً، وسعر الكيلووات 1 دولار. فيما سعره الرسمي الذي حدّدته وزارة الطاقة هو 0.3 (ثلث دولار). وحينما يبدي أيّ مواطن تذمّره أمام المحصّل أو الملّاك، يكون الجواب واحداً: “روح اشتكي للدولة”.
يشير مصدر أمنيّ في حديث لـ”أساس” إلى أنّ “استخبارات الجيش ليس دورها أن تكون ناظماً لهذا القطاع أو لغيره.
وهذا ما حدا بالعميد نزيه بقاعي بُعيد تعيينه مديراً لاستخبارات الجيش في الشمال أواخر عام 2020 إلى الإصرار على رفض دخول هذا المستنقع. وأكّد أنّ دور الجهاز هو حفظ القانون”. وبالتالي رُفع الغطاء المعنوي الذي كان أصحاب المولّدات يستظلّون به. وهو ما أدّى إلى دخول العديد من اللاعبين الجدد، مع الالتزام بالتسعيرة المعمول بها. ومن جانب آخر فإنّ فوقيّة كبار اللاعبين في هذا القطاع أدّت إلى توتّر علاقتهم مع ساسة طرابلس.
المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الدولة وأجهزتها الرقابية في التفلّت الحاصل في ضمن مافيا المولّدات في طرابلس.
وهو لا يقاس مع التفلّت في أيّ منطقة أخرى. وهذا ما توقّف عنده كرامي حين استغرب “وجود عدّادات في مناطق قريبة جداً من طرابلس، مع تسعيرة أقلّ بكثير”. والأمر نفسه أسرّ به عدد من النواب لمراجعيهم. فتحرّك القضاء، وجرى استدعاء أصحاب المولّدات وتوجيه إنذارات إليهم. كلّ ذلك يعني أنّ الأرضية باتت ممهّدة كي يدفع هؤلاء الضرائب التي تستحقّ للدولة عليهم.
“خوّة” في شرطة بلديّة طرابلس
ما جرى على أرض الواقع هو نقيض ذلك تماماً، فالتسعيرة بقيت نفسها لدى الغالبية العظمى. كما أنّ الضريبة زمّت ثلاثة أصفار. لكنّ الطرائق التي اتّبعها أصحاب المولّدات لاختزال الضريبة كانت مختلفة. وتوزّعت ما بين الرشى، واستخدام العلاقات مع مراكز رفيعة في الهرمية الإدارية للدولة، ومع أطراف سياسية من خارج طرابلس.
هناك من دفع بعض المال لأفراد من شرطة بلدية طرابلس كانوا يقومون بالكشف على المولّدات. وذلك لتقليل عدد المولّدات في المحاضر التي كتبوها، والتلاعب بقوّتها، بما يؤدّي إلى تخفيض الضريبة. وهذا ما دفع برئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين إلى الامتناع عن توقيع بعض الإفادات. وفي دردشة سابقة عن تسليمه الرئاسة إلى رياض يمق إنفاذاً لقرار شورى الدولة، أكّد قمر الدين حصول ذلك. وأشار في الوقت نفسه إلى صعوبة تحديد التاريخ الدقيق لانطلاق عمل كلّ المولّدات.
مع ذلك، فإنّ عملية الاختزال مضت وفوّتت على خزينة الدولة عدّة ملايين من الدولارات وفق تقديرات بعض المختصّين. تشير مصادر من ماليّة الشمال ومن بلدية طرابلس إلى فرض جهات في بلدية طرابلس رسماً مقطوعاً قدره 5 آلاف دولار، مقابل الحصول على إفادة تناسبه، وإلّا فلا إفادة. وهناك من لا يزال ملفّه عالقاً في البلدية لأنّه لم يدفع “المعلوم”. وقد باتت الأساليب بمنزلة أعراف في مؤسّسات الدولة تترسّخ يوماً بعد آخر.
إلى ذلك استفاد اللاعبون في هذا القطاع من تسوية تشبه الإعفاء، أجرتها معهم وزارة المالية عن أعمال سنة 2022 بنسبة 60% إلى 75%. بالإضافة إلى الإعفاء بنسبة 60% عن سنة 2023 لكلّ الخاضعين لضريبة الربح الصافي المقطوع، بموجب قرار صادر عن وزارة المالية نهاية السنة المنصرمة.
تشير مصادر أخرى إلى تدخّل أحد المراكز الرفيعة في السلطة المحلية من أجل اختزال هائل في الضريبة المتوجّبة على أصدقائه من كبار اللاعبين ممّن يمتلكون أسطولاً من المولّدات. وبالنتيجة أصبحت الضريبة السنوية المتوجّبة على كلّ واحد من أصحاب المولّدات أقلّ ممّا يدفعه له بعض المشتركين شهرياً.