غالبًا ما تتغير الانماط الاستهلاكية تماهيًا مع التغيرات في أذواق المستهلكين وقدراتهم على الشراء والتسوّق. لكن اتساع الفضاء الالكتروني أضفى على النزعة الاستهلاكية تغيّرات يمكن وصفها بالجذرية، أثّرت على الشكل الذي تتم به عمليات البيع والشراء، فأصبحت هذه العمليات، بغضّ النظر عن أسعار السلع وأنواعها، تتم عن بُعد عبر نقرة زر أو عبر رسالة نصيّة لا يتعدى محتواها بضع كلمات. ولم تعد اليوم معاينة منتجات أو سلع المتاجر على أنواعها مقرونة بتواجد الزبون فعليًا في المتجر، بل من خلال تصفّح المواقع أو الصفحات الالكترونيّة التابعة للمتاجر العالمية والمحلية، حيث تعرض صور البضائع والمنتجات مرفقة في غالب الأحيان بسعرها ومواصفاتها.
عمليات الشراء هذه أو ما يُعرف بالـ “online shopping” ليس حديث النشأة عالميا، أما في لبنان فتعود بداية رواجه الى فترة الحجْر المنزلي الذي أُرغِم عليه المواطنون في فترة “كورونا”، لكنه تطور بوتيرة سريعة وأصبح اليوم “اتجاهاً رائجاً – “trend وقد باتت المتاجر تتسابق في إضافة الخاصيات على مواقعها لتسريع عمليات البيع وزيادتها، وإقناع الزبون بالسلعة كتأمين التوصيل الى المناطق اللبنانية كافة في غضون ساعات معدودة بالاتفاق مع بعض الشركات المختصة في التوصيل، وكإتاحة فرصة الدردشة للمتصفحين عبر خانة الـ” chat box” على مواقعهم أو عبر “واتس آب”. هذا عدا عن ان التنافس التسويقي الشرس يظهر جليًّا على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما على منصة “تيك توك” عن طريق نشر الفيديوات السريعة.
أحد مالكي المكتبات في بيروت كريم الحلبي يوضح ان صفحات المكتبة تساهم في زيادة المبيعات بشكل ملحوظ، وان التجربة الأولى للمكتبة على مواقع التواصل الاجتماعي كانت على منصة “فايسبوك” عام 2016، مشيرًا الى ان الشهرة الفعلية للصفحة كانت في عامي 2019 و2020 توازيًا مع انتشار فيروس “كورونا”. ولا ينفي الحلبي استمرار توافد القرّاء الى المكتبة وتفضيلهم الشراء بعد تصفّح الكتاب، لافتا الى ان المبيعات الالكترونية تشكل نصف اجمالي مبيعات المكتبة. ويضيف: “لا يقتصر هدف صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي على البيع والتسويق بل نسعى الى نشر محتوى ثقافي، وهذا ما ساعدنا على زيادة عدد المتابعين”.
أما صاحب إحدى صفحات بيع الألبسة الجديدة محمد ملص، فيشير الى انه فضّل إنفاق ما لديه من رأس مال على صفحة متجره الالكتروني على “انستغرام” عوضًا عن تكبد تكاليف ايجار متجر، قائلاً: “أنفقت الكثير على تصوير الألبسة وعلى الإعلانات على “إنستغرام”، لكن ما زال المبلغ منطقيًا ومقبولًا مقارنة مع ما يدفعه أصحاب المتاجر من ايجار وكهرباء وديكور وتنظيف. واليوم بعد مرور اشهر قليلة على انشاء الصفحة أبيع ما يقارب الـ10 قطع أسبوعيا”. ويعيد ملص حركة البيع الجيدة هذه الى جودة البضاعة المعروضة والى أساليب التسويق الناجحة.
مَن يراقب محتوى هذه الصفحات وما اذا كانت تغشّ الزبائن أم لا؟ يؤكد المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر لـ “النهار” ان الوزارة تتلقى الكثير من الشكاوى على الخط الساخن “غالبيتها تتعلق بحالات غش وخداع، حيث ان ما يُعرض على الصفحات يختلف كليًّا عما يتسلمه الزبون. والمشكلة تكمن في ان الصفحات لا تقبل رد السلع في حال عدم رضى الشاري على جودتها. هنا الوزارة تتدخل وتصل الى حلول عادة، وفي حال عدم الوصول الى حل تحيل المتحايلين على القضاء المختص”. ويشيد أبو حيدر بعمل مكتب جرائم المعلوماتية في قوى الأمن الداخلي الذي يلاحق المتحايلين الذين ينشئون الصفحات لأيام معدودة لإتمام عمليات النصب ومن ثم يختفون، ويؤكد التواصل المباشر والتام بين الوزارة ومديرية قوى الامن الداخلي.
هل تكون المتاجر الالكترونية بديلًا من المتاجر التقليدية؟ يرى الباحث في شؤون الاقتصاد الدكتور علي حمود انه لا يمكن لذلك ان يحصل، لافتًا الى ان “كل الشركات التجارية العالمية التي لديها القدرة على انشاء اكثر الصفحات تطورًا تتمسك بالمتاجر التقليدية”. ويضيف: “يمكن للمتاجر ان تستعين بالمتاجر الالكترونية عند الازمات الكبرى كما حصل في كورونا، لكن لا يزال هذا النوع من التجارة مكملًا للتجارة التقليدية”. ويلاحظ حمود ان الشركات الناجحة في الأسواق الإلكترونية هي التي تعطي للمنتج لمسة إبداعية، مشيرا الى انها قليلة في لبنان، والى ان وظيفة غالبية الصفحات الالكترونية اللبنانية هي التوسّط بين شركة تجارية كبرى والمواطن اللبناني الذي لا قدرة له على الوصول الى مصدر السلعة الرئيسي.