أزمة المصارف “نظاميّة”… “الشيكات” دمّرت ما بقي من الودائع

يستعر الجدل في البلاد منذ مدّة حول تصنيف الأزمة الاقتصادية: بعض الخبراء والاقتصاديين يعتبرونها أزمة المصارف التي اتخذت خيارات فأوقعت البلاد في المأزق. ولهذا يتّهمون المصارف بها ويدعونها إلى تحمّل المسؤولية كاملة (مع المودعين). بينما الرأي الآخر يؤكّد أنّ “الأزمة نظامية” ومركّبة (Systemic crisis) تبدأ من سياسات السلطة السياسية من حكومة وبرلمان، وتمرّ خصوصاً بمصرف لبنان، فالقطاع المصرفي، وتنتهي لدى المودعين.

يقدّم هذا المقال مثالاً معاكساً أو Contre-example لهذا الرأي السائد ويؤكّد أنّ ثمّة مصارف في لبنان (وهي قليلة) لم تنخرط بلعبة الهندسات المالية والفوائد. لكن على الرغم من ذلك انزلقت إلى حيث انتهت المصارف الأخرى… وهو ما يؤكّد أنّ الأزمة هي أزمة عامّة بالفعل وليست أزمة المصارف، ولا يمكن مقاربتها من منظور فردي مثلما يحاول البعض فعله عن عدم دراية أو سوء نيّة.

“لن تستطيع محاربة المركزي”، أو بالإنكليزيةYou can’t fight the Fed … جملة قالها المحلّل الماليّ والمستثمر الأميركي الشهير مارتن سوايغ في عام 1970، فتحوّلت مذّاك الوقت إلى “منارة” أو “بوصلة” للمستثمرين، أفراداً ومؤسّسات ماليّة ومصارف.

مفاد تلك العبارة بسيط، ويعني أنّ السير عكس اتّجاهات المصرف المركزي (أيّ مصرف مركزي في أيّ دولة بالمطلق) هو عملية انتحار. أنت كمستثمر مجبر ومضطرّ إلى اتّباع تعليماته حينما يرفع الفائدة أو يخفضها. إن رفعها فهو يحضّك على الانكفاء من السوق وتقديم له ما لديك من أموال، وإن خفّضه فهو يدفعك إلى الاستثمار في قطاع الأعمال بقوّة وشراسة… ثمّ أمسى ذاك المبدأ من بديهيّات العمل المصرفي والاستثماري في العالم.

نعم… إنّها “أزمة نظاميّة”

كلّ هذه المقدمة التاريخية، ثمّ المقاربة النظرية، للدلالة على أسلوب بعض الصحافيين الاقتصاديين والخبراء في تحميل مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، للمصارف منفردة تحت عنوان أزمة المصارف. ويحاولون تبرئة مصرف لبنان والدولة من المسؤولية بشكل طريف، متّهمين في المقابل كلّ من يقول خلاف ذلك، بالكفر!

في نظر هؤلاء، إنّ المصارف “منفردة” أنتجت الأزمة يوم أهدرت أموال المودعين، ووظّفت جزءاً كبيراً منها لدى مصرف لبنان ولدى الدولة غير آبهة بالمخاطر… وكأنّ المصرف المركزي أو الدولة اللبنانية هما “دكّان” على خطّ بيروت – الدورة، أقفل مالكه بابه، وفرّ بأموال الناس إلى جهة مجهولة.

هؤلاء يتناسون أنّ مصرف لبنان هو “المايسترو” المصرفي والـRegulator الذي يدير اللعبة ولا يمكن لأحد الوقوف بوجهه (وفق مبدأ صديقنا مارتن سوايغ). يرفضون وصف ما حصل على مدى السنوات الأربع بأنّه “أزمة نظامية” أو Systemic crisis. وذلك ببساطة لأنّ النطق بهاتين الكلمتين البسيطتين سوف يدمّر منطقهم كلّه.

هؤلاء يتحصّنون بمجموعة من الأفكار. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: “صندوق النقد الدولي يرفض تحميل الدولة الخسائر”. وهذا القول وفق الكثير من الرسميين والخبراء الذين التقوا بوفود الصندوق، هو اتّهام غير صحيح أبداً. فالصندوق يعتبر أنّ الدولة لا يمكنها في الظروف الموجودة تحمّل الخسائر وليس الأمر أنّه لا يريدها أن تتحمّل الخسائر.. وثمّة فرق كبير بين الأمرين. يقول الصندوق: “لديّ مجموعة معايير إن استطعتم تلبيتها، فأنا منفتح على جميع الخيارات”. لكن يبدو أنّ ثمّة من يريد “تقويل” الصندوق ما لم يقُله، وهو طبعاً لن يدخل في زواريب الردّ على كلّ من ينطق بتصريح باسمه.

لكن دعك من هذا كلّه، ولنعد إلى الخبراء الاقتصاديين والصحافيين الذين يقولون إنّ الأزمة هي أزمة المصارف التي  خالفت القوانين حينما قامت بتسليف المصرف المركزي. فتخطّت مركزية المخاطر وحدود الإقراض، وأقدمت على إيداع الأموال في مصرف لبنان بفوائد خيالية. ويقولون أيضاً إنّ المصارف نتيجة جشعها أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه.

يغفل هؤلاء أنّ ثمّة مصارف لم تودع أموالاً لدى مصرف لبنان إلا ضمن ما تفرضه التعاميم (توظيفات إلزامية وما شابه) ولم توظّف ودائع عملائها لديه. لم تستثمر في سندات الخزينة الصادرة عن الدولة اللبنانية ولا بالـ”يوروبوند”… لكنّ المطاف انتهى بها مثل بقيّة المصارف الأخرى التي أقرضت الدولة ومصرف لبنان وغرقت في التسليفات فشبعت “تخبيصاً” على حدّ قولهم.

من بين تلك المصارف “البنك العربي”، الذي استطاع بتوجيهات من إدارته الخارجية، أن يمتنع عن إقراض الدولة أو الاستثمار في سنداتها
هذه الأمثلة عن تلك المصارف تؤكّد أنّ الأزمة المصرفية لم تكن “أزمة فردية” تخصّ مصرفاً أو مصرفين أو أكثر. بل كانت “أزمة نظامية” أو Systemic crisis ضربت القطاع المصرفي برمّته، وسببها السياسة المالية والنقدية في البلاد التي أنتجتها السلطة السياسية ومصرف لبنان. من دون إنكار وجود تجاوزات من بعض المصارف أو المصرفيين على الإطلاق.

“البنك العربيّ” نموذجاً

من بين تلك المصارف “البنك العربي”، الذي استطاع بتوجيهات من إدارته الخارجية، أن يمتنع عن إقراض الدولة أو الاستثمار في سنداتها. فالإدارة المركزية اختارت أن تتحمّل جزءاً من الأعباء للحفاظ على موطىء قدم لها في لبنان (على اعتبار أنّه منارة الشرق والقطاع المصرفي العريق.. وخلافه من ذاك الكلام الإنشائي الذي ذهب أدراج الرياح اليوم). بقي “البنك العربي” في لبنان بخلاف المصارف الأجنبية الأخرى التي اختارت الانسحاب في وقت مبكر. وذلك بعدما تلمّست الخطر من سياسات “الناظم” (مصرف لبنان) والجهات المراقبة له (السلطتين التنفيذية والتشريعية).

ولأنّ “البنك العربي” مصرف أجنبي، استطاع أن يعطي مودعيه 2% فوائد فقط. بمعزل عمّا كان يقدّمه من فوائد مرتفعة مصرف لبنان للمصارف من أجل استقطاب الأموال. وذلك بالاعتماد على قدرات الفرع الأمّ في الخارج. فيما كانت المصارف المحلّية تمنح مودعيها 5% و6%، ولاحقاً وصلت الفائدة إلى 9% و10% وربّما أكثر.

كان “البنك العربي” يقدّم نفسه للجمهور على أنّه “مصرف محصّن” باعتبار أنّه مصرف أجنبي له فرع في لبنان، وليس مصرفاً محلياً فحسب. استطاع من خلال ذلك أن “يبيع” المودعين تلك الفكرة، فحاز نسبة 2% حصّة من حجم السوق فقط… لكن ماذا حلّ به حينما وقعت الأزمة في نهاية المطاف؟

هل استطاع أن يدفع كامل أموال المودعين لديه؟ الجواب: كلّا.

“الشيكات” دمّرت ما بقي من الودائع

نتيجة قراره عدم إقراض مصرف لبنان أو شراء سندات الدولة، اضطرّ البنك العربي إلى أن يستثمر الجزء الأكبر من أمواله (ودائع الناس) في القطاع الخاص، أي بالقروض التجارية والفردية. لكن بعد وقوع الأزمة وإصرار مصرف لبنان، ومن خلفه الحكومة، على تبنّي سعر صرف رسميّ غير واقعيّ (1,500 ليرة). ثمّ لاحقاً 15 ألفاً. والسماح بتسديد تلك القروض (أغلب استثماراته) بالشيكات المصرفية.

تلك الشيكات التي دفعها الدائنون للمصرف بدل قروضهم (في الأصل أموال المودعين). التي حصلوا عليها “كاش” بالدولار “الفريش”. انتهى بها الأمر أموالاً بـ”اللولار”، محجوزة في مقاصّة مصرف لبنان الذي يرفض إعادتها “فريش”. بل يرفض إعادتها من أصله ولا يعترف بها إلا مواربة اليوم… وهو ما كبّد مصرفاً لم يرتضِ الدخول بلعبة الهندسات المالية منذ البداية (البنك العربي)، لكنّ الأمر انتهى به متعثّراً متخلّفاً عن سداد ودائع مودعيه كاملة.

يؤكّد هذا المثال أنّ أزمة المصارف لا تخصّ المصارف وحدها بل هي أزمة سياسات اتّخذها مصرف لبنان وغطّت عليها الحكومات والبرلمانات المتعاقبة. التي كان يفترض أن تراقب عمله وتضع له حدّاً حينما ترصد تجاوزاته. لكنّ ما فعلته السلطة هو أنّها أطلقت يد حاكمه السابق رياض سلامة، بل دعمته وآزرته وغطّته وما زالت تغطّيه إلى اليوم… ثمّ يأتي من يعرف تلك الحقيقة جيّداً ليقول لنا عن خبث أو عن جهل، لا نعلم: إنّها أزمة مصارف فحسب!

عماد الشدياق – اساس ميديا

Exit mobile version