تعويضات نهاية الخدمة ذابت مع الليرة… والتعويل على الراتب التقاعدي

لم يكن ضياع الودائع واحتجازها في المصارف اللبنانية، وانهيار قيمة الليرة وخروج المستثمرين من السوق وفقدان الوظائف، هي وحدها المصيبة التي أثقلت كاهل اللبنانيين منذ بدء الأزمة والإنهيار النقدي، وجعلتهم في مهب الفقر والعوز والخوف من فقدان الأمان الاجتماعي والإقتصادي واستقرار التقاعد، بل إن المصيبة الاكبر هي ضياع تعويضات نهاية الخدمة وخسارة قيمة “القرش الأبيض” الذي احتفظوا به لدى المؤسسات الضامنة ليوم أسود قد يأتي، ولـ”آخرة” تقاعدية محصّنة من ذلّ السؤال والإتكال على الأبناء والأنساب.

150 مليون ليرة تعويض نهاية خدمة، أي نحو مئة ألف دولار، تحولت إلى ما يعادل 1500 دولار لا تكفي “دخلة” مستشفى لمرة واحدة، وفواتير الدواء والخدمات الشهرية، ولا تغني عن العودة القسرية المذلّة إلى قطاع العمل بعد تخطي سن التقاعد والدخول في مرحلة العجز والكهولة.

تعويضات الضمان لا تزال تُدفع وفق الإشتراكات التي كانت تسدد على نِسب الرواتب المحققة قبل الأزمة، والتعديلات التي طرأت منذ بداية عام 2024 لن يكون لها تأثير قبل مضيّ سنوات على الزيادات التي أُقرّت أخيرا على الرواتب. فيما تعويضات القطاع العام التي ينالها مَن خدم في الوظيفة أكثر من 40 عاما، وهم في غالبيتهم عسكريون، سقطت أيضا في فخ التضخم وخسرت قيمتها الفعلية وبات اتكال المتقاعد فقط على الراتب الشهري المضاعَف من الدولة مرات عدة ليقي نفسه وعائلته مذلّة الإستعطاء.

ما الحل؟ وكيف لمن خدم وعمل وضحّى عشرات السنين في القطاعين العام والخاص وهم في غالبيتهم من الطبقة الوسطى وما دون، أن يعيش بما تبقّى له، وبما تجود به الدولة عليه، بعد ضغط وتحريك الشارع، ولم لم يلمس أيٌّ من الموظفين وفي سوق العمل بادرة أو خريطة طريق إستراتيجية رسمية للخروج من رعب الشيخوخة الذي يقضّ مضاجع العمال والمتقدمين في السن الذين اقترب انتهاء خدمتهم بفعل العمر.

طُرحت أفكار ومشاريع عدة خلف أبواب الغرف المغلقة، ومعظمها لم يلقَ قبولا أو استحسانا من المعنيين، فيما لو قارب هؤلاء الموضوع بحكمة وجرأة أكثر، لكانت ربما مشاريع الحلول أقرب إلى التحقيق، وبناء شبكة أمان إجتماعي واقتصادي لشريحة كبيرة من العمال قيد التنفيذ.

هذا الواقع المزري الذي آلت اليه أوضاع عمال وموظفي القطاعين العام والخاص أضاءت عليه مصادر رسمية لـ”النهار” فشرحت طريقة احتساب التعويضات والراتب التقاعدي لموظفي القطاع العام (المؤسسات العسكرية، والادارة العامة). وقالت: “لو افترضنا ان العسكري في الجيش اللبناني يقبض راتب 3 ملايين ليرة شهريا، عند تقاعده بعد 25 سنة خدمة، سيتقاضى تعويضاً مقداره 225 مليون ليرة، اضافة الى راتب تقاعدي. أما راتبه التقاعدي فيُحتسب على اساس آخر راتب، يحسم منه 15% أي يصبح نحو مليونين ونصف مليون. ولكن، بعد التعويضات الاضافية التي اقرتها الحكومة على مراحل، يتقاضى المتقاعد راتبا شهريا يوازي 9 أضعاف راتبه التقاعدي أي 22.5 مليون ليرة في حالة العسكري الذي يتقاضى 3 ملايين ليرة كأساس راتب. مع الاشارة الى ان الزيادات الاخيرة التي اقرتها الحكومة جعلت الحد الادنى الذي يتقاضاه المتقاعد سواء كان عسكريا او مدنيا 20 مليون ليرة شهريا مهما كان اساس راتبه التقاعدي. أما الموظف المدني فيحصل على راتب تقاعدي 9 أضعاف راتبه الاساسي، وعليه الاختيار بين تعويض نهاية الخدمة او راتب تقاعدي. فاذا اختار التعويض، وهي حالات نادرة جدا، ساعتئذ يتم احتساب تعويضه على اساس الراتب الاخير، علما أن التعويض للموظفين من الفئة الاولى لا يتجاوز الـ 400 مليون ليرة. اما الراتب التقاعدي فيُحتسب على اساس 85% من قيمة آخر راتب للموظف ويتم ضربه بتسعة اضعاف، ليبلغ 20 مليونا حدا ادنى ونحو 70 مليونا حدا اقصى”.

وقدرت المصادر عدد المتقاعدين بنحو 120 الف متقاعد عسكري ومدني (يشكل العسكريون غالبية المتقاعدين)، اما عدد موظفي القطاع العام (مدني وعسكري) الذين يحالون على التقاعد سنويا فهو نحو 2000 متقاعد. وأما في ما يتعلق بالكلفة التي تتكبدها الدولة على المتقاعدين وأولئك الموجودين في الخدمة حاليا، فتشير المصادر الى أنه بعد الزيادة التي اقرت أخيرا، اصبحت كلفة الرواتب والاجور للقطاع العام من عسكريين وادارات عامة ومتقاعدين نحو 10 آلاف و700 مليار ليرة شهريا اي نحو 120 مليون دولار اميركي شهريا على سعر المنصة. وتشكل حصة رواتب المتقاعدين في القطاع العام حوالى 27% من مجمل الرواتب والاجور وتصل الى نحو 2900 مليار ليرة شهريا.

هذا على دفة القطاع العام، أما على دفة القطاع الخاص، فأكد المدير العام للضمان الاجتماعي محمد كركي ان الضمان يسعى جاهدا لأن يتقاضى الأجير تعويضا مناسبا، لذا يعمل المراقبون في الضمان على التفتيش عن مؤسسات وشركات لا تصرح بالاجر الحقيقي لأجرائها. وبالنسبة لطريقة احتساب التعويضات، أوضح كركي ان مؤسسة الضمان الاجتماعي لا تعتمد سعر صرف محددا في احتساب التعويضات، بل تعتمد الليرة اللبنانية كونها العملة الوطنية للبلاد، وبحسب الأجر الأخير الذي يتم التصريح عنه للاجير مع احتساب عدد سنوات الخدمة. لكن الاشكالية الوحيدة وفق ما قال هي أن “ثمة عددا من الشركات صرحت للضمان بانها تدفع للموظفين بالدولار، وكنا نحتسب لهم الاشتراكات على اساس سعر صرف 15 ألف ليرة كما هو وارد في موازنة الدولة لعام 2022. ولكن بعدما اصبح سعر الصرف 89 ألفا و500 ليرة ابلغنا الشركات منذ أول السنة وجوب دفع الاشتراكات على هذا السعر، وتاليا المشكلة أصبحت عند المؤسسات والشركات التي كانت تتلاعب في هذه المسألة للتهرب من التصريح عن أجور كبيرة بالليرة”.

واعتبر أن “لا مشكلة للمؤسسات في تسديد الاشتراكات الجديدة، بل في مبالغ التسوية التي ستدفعها، على اعتبار أنه عند زيادة الراتب الذي تم التصريح عنه سيتضاعف نحو 6 مرات، وتاليا فإن مبالغ التسوية ستزيد، بما قد يدفع بعض الشركات الى اجراء اتفاق مع الاجير ليترك عمله في 31/12 واعادة توظيفه بعد هذا التاريخ من جديد للتهرب من مبالغ التسوية. هذا الامر لا علاقة للضمان بمتابعته، إذ تقتصر مهمته على مراقبة الشركات ومتابعتها في ما اذا كانت تصرح عن الاجر الحقيقي لإنصاف الاجير من الضمان بحسب الاجر الحقيقي الذي يتقاضاه”.

وشدد على أن الضمان لم يعد يقبل التصريح عن الاجر بالدولار على سعر 15 ألف ليرة واصبح يعتمد السعر الرسمي للدولار، اما بالنسبة لفرعي التعويضات العائلية والمرض والامومة، فلا مشكلة، على اعتبار أن السقف الاعلى لاشتراكاتهما هو ما بين 12 و45 مليون ليرة، على عكس اشتراك نهاية الخدمة المفتوح من دون سقف محدد، بما يضاعف بنحو 6 مرات مبالغ التعويضات ونهاية الخدمة.

واسف لكون طريق الحوار من الهيئات الاقتصادية وصلت الى طريق مسدود، “خصوصا أنهم جاهروا بعدم قدرتهم على التصريح إلا بنسبة 5 أو 10% من الاجور التي يدفعونها فعليا للاجراء. ولكن في نهاية المطاف، ثمة لجنة مؤشر ووزير عمل وهيئات اقتصادية واتحاد عمالي عام، فليتفقوا، وحين تصدر المراسيم في هذا الصدد سيطبقها الضمان الذي سيقوم في المقابل بالتفتيش عن المؤسسات التي لا تصرح عن الاجور الحقيقية، لأنه لا يمكن أن نكمل بهذه الطريقة، علما أن الضمان أخذ المبادرة بإدخال المساعدات الاجتماعية في صلب الراتب”. وردا على سؤال عن امكان تحصيل الاشتراكات بالدولار للأجور التي تسدد بالدولار، أكد كركي أنه “لا يمكن للضمان تحصيل الاشتراكات بالعملة الاجنبية، الا في حال قررت الدولة اللبنانية التعامل بالدولار في مؤسساتها كافة… ساعتئذ لا حول ولا…”.

يبدو واضحا من كلام كركي أن المشكلة الاساسية هي في عدم تصريح المؤسسات عن الاجور الحقيقية لموظفيها، وكذلك في عدم قدرتها على اعتماد سعر الصرف الرسمي، بيد ان نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان نبيل فهد أكد أن “المؤسسات التي تسدد رواتب اجرائها بالدولار مضطرة لأن تصرح على اساس سعر صرف 89 ألفا و500 ليرة، إذ لا يمكن التلاعب بهذه المسألة، عدا عن أن الاجير لا يمكن ان يرضى بتصريح صاحب المؤسسة عن راتبه بالدولار وفق 15 ألف ليرة كما في السابق”.

وأكد أن “اصحاب العمل حريصون على ديمومة الضمان واستمرارية خدماته لأجرائهم لسبب بسيط أنه يوفر عليهم مبالغ طائلة جراء اعتماد شركات التأمين الخاصة أو دفع مبالغ الاستشفاء للاجراء على نفقتهم الخاصة”.

واوضح أن المشكلة التي تواجه أصحاب العمل هي في مبالغ التسوية، إذ “سيضطر صاحب العمل الى أن يدفع كل المبالغ السابقة التي فقدت قيمتها، بما سيسبب عبئا كبيرا عليه”، لافتا الى أن “المشكلة الاساسية في التصريح عن الراتب الحقيقي هي في تعويض نهاية الخدمة لا في موضوع الاستشفاء، وما ينتج عنه من عبء على مؤونات ميزانية الشركات”.

 “النهار”- سلوى بعلبكي

Exit mobile version