التوقّف عند أرقام الخسارة والفجوة الماليّة، والعودة بالتاريخ إلى الوراء في محاولة لإعطاء حياة لخطط وحلول وُلدت ميتة في الوقت الذي كان يجب أن تكون في عزّ مجدها، والتسريبات التي تحصل عمداً، من وقت إلى آخر، كلّ ذلك يهدف إلى التشويش فقط وإبعادنا عن المطالبة بتصويب الأداء وإيجاد حلول للأزمة المصرفية.
في تشرين الأول 2019، كان لبنان على موعد مع الأزمة المصرفية بسبب حجم الطلبات على السحوبات النقدية أو التحويل إلى الخارج. كلاهما بحاجة إلى توافر سيولة تعجز الخزينة الأميركية عن توفيرها. سيولة المصارف عندها كانت موزّعة بين المواطنين (المقترضين) ومصرف لبنان. وإقفال المصارف آنذاك كان بأمر من المصرف المركزي. ضبابية مقلقة رافقت الإقفال. وحتى اليوم لا يوجد تقرير يشرح ويوضح الأسباب الموجبة لهذا الإقفال. تفاقَمَ الوضع مع رفض مصرف لبنان التوضيح، وصمت المصارف. تأكيد المركزي أنّ ما يحصل هو فقط سوء قراءة و”فقاعة نقدية” تتمّ معالجتها، وسوف يتخطّى البلد هذا الاستحقاق. جاء تسديد استحقاق تشرين الثاني 2019 لليوروبوند ليعطي جرعة طمأنينة مزيّفة كان ثمنها غالياً جدّاً.
حبل الكذب قصير
حقّاً إنّ “حبل الكذب قصير”. صدر قرار التوقّف عن خدمة الدين عند استحقاق آذار 2020 لليوروبوند، وواجه لبنان أزمة نقدية ومصرفية وفشلاً اقتصادياً شبه كامل. تعدّد الأزمات وتشابكها وغياب الإنقاذ والمعالجة والإصلاح أعطت مساحة إضافية لاستغلال الظروف والاستفادة من وجع الناس. آنذاك، لم يكن ولن يكون الحلّ في يد مصرف واحد أو حتى القطاع المصرفي بأكمله. كانت وما زالت أزمة وطن بكامله. أصبحنا في مواجهة أزمات مصرفية ونقدية واقتصادية ومعيشية، ولم تمضِ سنة على إطلاق الرصاصة الأولى في تشرين الأول 2019.
جرى تجميد السحوبات من ودائع الناس. عُلّق العمل بجميع الخدمات المصرفية للأفراد والشركات. وانطلق المسار الانحداري للعملة الوطنية. ولكن صدق أبو الطيّب المتنبّي بقوله “مصائب قوم عند قوم فوائدُ”. أصحاب الدخل المحدود الذين كانوا يحملون هموم القروض السكنية والشخصية وغيرها حصلوا ظرفيّاً على جرعة أمل تمثّلت بتمكينهم من تسديد ديونهم على “الرخيص”، وأصبحوا اليوم متملّكين لمنازلهم. هنيئاً لهم. حقّاً هنيئاً لهم. المشكلة هي في مكان آخر: المشكلة هي عند المتمكّن مادّياً وتوافر له تسديد ديونه على “الرخيص”. الحقيقة هي أنّ سوء إدارة الأزمة كان مدمّراً أكثر من الأزمة ذاتها. اليوم يعيش لبنان أزمة:
– نظام (Corruption).
– تنظيم (Lack of Governance & Transparency).
– نظامية (Systemic).
الحلول يجب أن تبدأ من هنا، أو سنبقى نتخبّط بآلامنا. لكنّ السؤال الأهمّ: لماذا الجدل حول ما إذا كانت الأزمة نظامية أم لا؟ لأنّ الجميع يريد أن يهرب من المساءلة والمحاسبة!
الأزمة النظامية المصرفية تشير إلى حالة من عدم الاستقرار أو الفوضى في القطاع المصرفي في البلد، وهي تنشأ عادةً نتيجة عدم القدرة على توفير السيولة الكافية لتلبية احتياجات السوق المالية. أو بسبب تراكم الديون السيّئة و ضعف إدارة البنوك. أو الاضطرابات الاقتصادية الشاملة مثل الركود الاقتصادي. تتّسم الأزمات المصرفية بتداعياتها السلبية على الاقتصاد حيث يمكن أن تؤدّي إلى تراجع في الثقة بالنظام المصرفي، وتقليل الاستثمارات، وتباطؤ نموّ الاقتصاد، وارتفاع معدّلات البطالة. عادةً ما يلزم تدخّل الحكومة أو الجهات الرقابية لاحتواء الأزمة واستعادة الاستقرار في النظام المصرفي. وقد تشمل هذه الإجراءات تقديم الدعم المالي للبنوك المتعثّرة. أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي. أو تعزيز اللوائح والرقابة لتحسين الإدارة المالية والحدّ من المخاطر في المستقبل. وقد تكون هذه الأزمة ناتجة عن عدّة عوامل:
– أداء المصارف: قد يكون أداء المصارف ضعيفاً بسبب إدارة سيّئة، أو من خلال المخاطر المصرفية التي تتعرّض لها، مثل القروض الرديئة أو التسهيلات المالية غير المدروسة.
– السياسات الرقابية: قد تؤدّي سياسات رقابية ضعيفة من قبل السلطات المالية إلى تفاقم الأزمة المصرفية حيث إنّ ضعف الرقابة يمكن أن يسمح بحدوث مخاطر متنوّعة (ائتمانية، تشغيلية، سيولة، استراتيجيّة، سيادية، إلخ) غير مرغوب فيها داخل النظام المصرفي.
– أخيراً أداء المصرف المركزي: يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على استقرار النظام المصرفي. وإذا كان أداء المصرف المركزي غير فعّال في التصدّي للتحدّيات المالية والاقتصادية، فقد يزيد ذلك من احتمالات حدوث أزمة مصرفية. وهذا يؤكّد أنّ أزمة لبنان المصرفية تستوفي شروط الأزمة النظامية بكلّ تفاصيلها.
أزمة نظامية في المصارف
الأزمة المصرفية في لبنان هي أزمة نظامية وتعتبر أحد أبرز التحدّيات التي تواجه البلاد في الوقت الحالي. من أبرز الأسباب التي أدّت إلى الأزمة المصرفية في لبنان تراكم الديون العامّة والعجز المالي الذي يعاني منه البلد منذ سنوات. أثّر هذا الوضع في القطاع المصرفي، وزاد من ضغط الديون عليه. ومع تزايد الشائعات حول عدم قدرة البنوك على تلبية احتياجات العملاء وسحب أموالهم، تدهورت الثقة بالنظام المصرفي. وهو ما أدّى إلى تدفّق سحب الودائع بشكل كبير. وبدأت البنوك اللبنانية بفرض قيود على سحب الودائع وتقديم خدمات التحويلات الخارجية، وهو ما زاد من عدم الاستقرار وقلّل من الثقة بالنظام المصرفي.
وتفاقمت الأزمة نتيجة عدم القدرة على إدارتها بشكل فعّال من قبل السلطات الماليّة والحكومية، وهو ما أدّى إلى تفاقم الوضع وانتشار الاحتجاجات. تسبّب سوء إدارة الأزمة المصرفية في انهيار الليرة اللبنانية وارتفاع معدّلات التضخّم، فأثّر سلباً في القوة الشرائية للمواطنين، وتدهور الحياة الاقتصادية بشكل عامّ. هذه بعض النقاط الرئيسية التي تلخّص الأزمة المصرفية الحالية في لبنان. وهي تعكس تحدّيات متعدّدة ومعقّدة تتطلّب جهوداً كبيرة للتغلّب عليها واستعادة الاستقرار الاقتصادي والماليّ للبلاد.
أما توزيع مسؤولية الأزمة في لبنان، فيمكن أن يكون موضوعاً مثيراً للجدل والتحليلات المتعدّدة، لكنّ عدّة أطراف تتحمّل مسؤولية كبيرة عن تفاقم الأزمة، ومن بينها:
1- يتحمّل السياسيون والحكومة اللبنانية مسؤولية كبيرة، حيث فشلوا في تقديم الحلول الفعّالة لأزمة الديون والتدهور الاقتصادي. ولم يتمكّنوا من تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية.
2- يقع جزء من المسؤولية على القطاع المصرفي نفسه، حيث لم يتمكّن من إدارة المخاطر بشكل فعّال وتحقيق الشفافية المطلوبة لاستعادة ثقة المودعين.
3- تمثّل الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان نموذجاً للفساد وعدم الكفاءة، وهو ما أدّى إلى تعثّر الإصلاحات الضرورية وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
4- تساهم السياسات الاقتصادية السابقة، بما في ذلك التضخّم المفرط والإنفاق العامّ الزائد، في تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية.
بناءً على هذه العوامل، يمكن القول إنّ المسؤولية الأولى تقع على عاتق السياسيين والحكومة في لبنان، وذلك بسبب فشلهم في اتّخاذ الإجراءات اللازمة لتجاوز الأزمة وإعادة بناء الاقتصاد والنظام المصرفي.
يعتبر دور المصرف المركزي في لبنان في إدارة الأزمة محورياً وحيويّاً، لكنّه أثار الكثير من التساؤلات والانتقادات بسبب بعض القرارات والتدابير التي اتّخذها:
د. محمد فحيلي – اساس ميديا