يتصدر ملف اللجوء السوري قائمة الازمات اللبنانية نظرا لتداعياته الكارثية على الواقع الجغرافي والاجتماعي كما الامني في الداخل. وقد تحول هذا الملف الى عبء على المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص المجتمع الاوروبي المتخوف من عمليات التصدير اليومية لقوارب اللجوء غير الشرعي والتي تكلفه فاتورة ديمغرافية كبيرة.
وعوض اعتماد خطة رسمية واضحة لمعالجة أزمة النزوح بادرت القوى السياسية الى سلوك سياسة المزايدات الشعبوية والتي راكمت على مدى سنوات مشاكل مرتبطة بالبنية العائلية للسوريين، وولَّدت جيلا أُميا أجبرته ظروفه الحياتية الى سلوك طريق العمل. وهنا لا بد من طرح السؤال على الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ سنة 2011 الى اليوم: “ماذا فعلتي لحل هذا الملف”؟
ملف التسرب المدرسي والذي سجل أرقاما قياسية في لبنان، يعود للتلامذة السوريين الذين فاتهم قطار التعليم. وتكمن العقدة في هذا الملف بالدولة اللبنانية وفق ما يكشف كتاب بين “الدمج والعودة” الذي صدر حديثا في مهرجان الكتاب الواحد والاربعين الذي نظمته الحركة الثقافية انطلياس، مستندا الى وثائق رسمية تمكن كاتبه الدكتور “كارلوس نفاع” من الحصول عليها ووضعها في فصول الكتاب السبعة حيث تدرجت أزمة تعليم الاطفال اللاجئين السوريين في لبنان من اليوم الأول، واضعا امام القارئ اشارات بداية الازمة بالارقام الموثقة بالتقارير الرسمية والقرارات التي اتخذت في حينه والتي لم تعتبر ان هناك أي أزمة محتملة.
والدولة التي تضع دائما “الحق على الطليان” قامت بواسطة أجهزتها المعنية برفع طلب خطي سنة 2015 الى UNHCR تدعو فيه المنظمة الى التوقف عن تسجيل اللاجئين، ما ادخلنا في بازار الأرقام حيث يُطلق كل طرف ارقاما مختلفة تناسب اجندته السياسية ناهيك عن تسيّب الحدود البرية بحيث يعبر يومياً مهاجرون اقتصاديون في الاتجاهين فيختلط حابل اللاجئين بنابل الاتجار بالبشر والعمال الموسميين.
ووفق الكتاب نرى بوضوح سياسات الهروب الى الأمام في قرارات وزارة التربية التي أعتمدت المنهج اللبناني رغم توصية الشبكة الدولية المشتركة لوكالات التعليم في حالات الطوارئ بالحفاظ على الهوية الثقافية للاجئين السوريين، عبر التعليم.
إهمال كل إشارات ولادة الأزمة لم يكن وحده الفرصة الضائعة والخطيئة الّتي سيحاكم عليها التاريخ، فالمثير للقلق هو غياب الرؤية السياسية الشاملة لمعالجة الأزمات الناتجة عن الحرب السّوريّة من قِبَل الحكومات اللّبنانيّة المتعاقبة، والّتي يتوجب عليها الحفاظ على حقوق الإنسان بالتوازي مع سيادتها ومصالح البلد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والامنيّة.
فعلى أرض الواقع، ومنذ اليوم الأول لتدفق موجات اللّاجئين إلى لبنان من الحدود الشرقيّة والشماليّة، تجاهلت القوى السياسية كافة، ونأت بنفسها عن إدارة الازمة الى أن وقع الانفجار الكبير كما عبَّر عنه الكتاب، فضُربت السّيادة اللّبنانيّة بعرض الحائط كما مستقبل التّلامذة السّوريين اللّاجئين. فعلى سبيل المثال تولّت حكومة المعارضة السرية في حينه مباشرة التّعليم في عدة اقضيّة لبنانيّة بشكل خاص شمالاً وبقاعًا، وأجرت الامتحانات الرّسميّة، وأصدرت الشّهادات الرّسميّة من دون أي مُسوغ قانوني لبناني او دولي، ضاربة بعرض الحائط كل المعايير الإنسانيّة والحقوقيّة، وسط صمت الحكومة اللبنانية وكأن كل ذلك لا يجري على اراضيها. فقد افتتح التحالف السوري المعارض مدارس خاصّة به في لبنان من دون موافقة السلطات اللبنانية المختصة، وعمد إلى تقديم كتب مدرسية سورية معدلة بما يناسب توجهاته السياسيّة. وأضحى واقع حاملي هذه الشّهادات لا سيما الثانوية منها مأساويًّا، إذ تم رفضهم في الجامعات اللبنانية كافة، ودفع التلامذة من اللاجئين السوريين الثّمن.
وفي قراءة متأنية للقرارات التي اتخذتها وزارة التربية مع الطلاب اللاجئين والمعروضة في الكتاب، يتبين ان الدولة عن قصد أو غير قصد اتبعت سياسة دمج التلميذ السوري مع اللبناني من خلال اجبار هذا الطالب على اعتماد المنهاج اللبناني.
فالوزارة لم تعتمد توصيات الشّبكة المشتركة لوكالات التّعليم في حالات الطّوارئ INEE الّتي دعت الى احترام حقّ الوصول المجّانيّ والشّامل والتعليم في بيئة آمنة، كذلك السّماح للتّلامذة اللّاجئين باستخدام مناهج ولغة البلد الأمّ. ولم تسمح وزارة التربية للجهات الفاعلة غير الحكوميّة بإنشاء برامج التّعليم الخاصة في حالات الطّوارئ، رغم مشاركتها مع مجموعة عمل قطاع التّعليم ESWG، في إصدار معايير الحدّ الأدنى الخاصة بالأزمة في لبنان عام 2014. وقد ألزمت وزارة التّربيّة والتّعليم العالي التّلامذة السّوريين اللّاجئين باتّباع المناهج اللّبنانيّة في دراستهم ومنها تاريخ وجغرافيّة لبنان في المدارس الرّسميّة مع الإبقاء على إحدى اللّغات الأجنبيّة الفرنسيّة أو الإنكلّيزيّة كلّغة التّعليم في موادّ الرّياضيّات والعلوم، ممّا شَكلّ عائقًا كبيرًا لاستمرار التّلامذة السّوريين في مسارهم التّعليميّ بنجاح، ومهد لانسلاخهم عن هويتهم الثقافيّة والوطنيّة واندماجهم في لبنان البلد المضيف من دون ان تعطيهم أي حق من حقوق العمل والمواطنة أو أقله الإقامة الدائمة، ما أعاد إلى الواجهة مسألة إعتماد المنهج اللبناني كاملًا في مدارس الاونروا، في تعليم التّلامذة اللّاجئين الفلسطينين بموافقة وزارة التّربيّة اللبنانيّة، وعدم توافق ذلك مع حق العودة، والدستور اللبناني الّذي يرفض التوطين.
يفتح الكتاب أيضا الباب أمام دور منظمات المجتمع المدني المحلية منها والدولية والتي دخلت على خط الازمة من باب المساعدة في سنوات الحرب الاولى بين 2011 و 2014، وبحسب الكاتب فإن هذه المساعدة وقعت تحت مظلة المقارَبة الإنسانيّة الّتي هدفت الى تأمين مساحة آمنة فوريّة للأطفال. وشملت أعمال الاستجابة الإنسانيّة هذه، الغذاء والماء والمأوى وبعض جهود التعليم. وتمحورت في حينه كل الأنشطة التّربوية لتحقيق التّنميّة النّفسيّة والاجتماعيّة، وضمان حصول الأطفال على الموارد اللّازمة للتّغلّب على الصّدمات الّتي تسبّبت بها الحرب. لكن تدخل وزارة التربية سنة 2014 وقرارها باعتماد المقاربة التنموية الدامجة غيَّر بحسب الكاتب مسار الامور رأسًا على عقب ونقل الازمة الى عتبات جديدة بتفرد وارتجال كما وفتح الباب على مخالفة نص المادة 243 من قانون المحاسبة العموميّة الذي “يحظر على الإدارات العامة والبلديات والمؤسسات العامة التابعة للدولة أو للبلديات وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العموميّة فتح حسابات في المصارف الخاصة أو فتح حساب خاص بها في مصرف لبنان”. بحيث يتم تحويل أموال هبات التعليم عبر اليونسف بناء لطلب وزير التّربيّة إلى الحساب الخاص الّذي أنشىء في المصرف المركزي، ويتم توزيع هذه الاموال بموجب إحالات يوقعها وزير التّربيّة والمدير العام بناء على طلب وحدة التّعليم الشّامل وفق اللوائح الّتي تعدها الأخيرة، وعليه فقد أسقطت هذه المخالفة، مبدأ شمول الموازنة المكرس دستورياً. فالهبات هي إيرادات ويجب أن تُقيد في قسم الواردات من الموازنة وتخصص لتغطيّة عجز الموازنة، أي قصور الإيرادات المحصلة عن تغطيّة النفقات المصروفة، ما لم تكن لها وجهة إنفاق معينة وفقاً لإرادة الواهب فيُفتح لها اعتماد في قسم النفقات من الموازنة وتخصص حصراً لتغطيّة هذا الاعتماد.
يخلص الكتاب الى رؤية سوداوية في ملف التلامذة اللاجئين، فسنرى جيلا من الشّباب والشّابات اللّاجئين كبروا على فكرة لبنان بتاريخه وتربيته وأقفلت أمامهم كل الأبواب حتى باب إعادة التوطين في بلاد اخرى إرضاءً لسياسات المانحين الّذين أقفلو حدودهم علنًا. أكثر من 400 الف طفل لاجئ خارج اطار التعليم وأهلهم غير قادرين على العودة الى ديارهم وهو ما يسبب عواقب إنسانيّة واقتصاديّة وأمنيّة معقدة، وسيزيد الضغوط على المجتمع اللبناني، الّذي لا يحظى بالدّعم الحقيقي اللّازم من المجتمع الدولي لتعليم وحمايّة كل الأطفال اللّاجئين، الا بما يحفظ ماء الوجه.