بعد الاتفاق الذي عبر في اجتماع لجنة المؤشر دون ضجيج يُذكر كعادة المحطات السابقة التي مرّت على التعديلات والزيادات التي تمت على الرواتب الأجور، يحوط عدم رضى بعضه نقابي وبعضه “بحثي” يستغرب تسرّع الاتحاد العمالي في إبرام اتفاق على حد أدنى للأجر في القطاع الخاص يبلغ 18 مليون ليرة، فيما وجب وفق دراسات واستقصاءات عدة أن يكون الحد الأدنى المبتغى للعيش بكرامة وأمان اجتماعي هو 52 مليون ليرة.
الاعتراضات أتت على خلفية أن القطاع الخاص سبق له أن رفع أجور عماله وموظفيه، وتالياً الزيادة بالشكل والرقم هي “لزوم ما لا يلزم” ولا يستفيد منها العمال أو تضيف إلى رواتبهم جديداً، خصوصاً أن الاتفاق لم يعتمد “النسب المئوية” والأطر العلمية الحديثة في احتساب التعديل على الراتب، وكذلك ألغى قاعدة توزيع الزيادة كما كان يعتمد سابقاً على الشطور.
استيلاد المرسوم قد يكون دونه عقبات وعوائق، لكن أركان لجنة المؤشر يؤكدون أن ما تم الاتفاق عليه هو أكثر الممكن وأن الهيئات الاقتصادية وأرباب العمل يتحملون إلى الجمود والمراوحة الاقتصادية القاتلة، مسؤولية تأمين استمرارية الضمان الاجتماعي الذي أصبحت مع التعديلات الجديدة على الأجور أرقام اشتراكاته كبيرة جداً بالإضافة إلى الرسوم والضرائب التي ارتفعت مع موازنة 2024 بشكل كبير.
الباحث في شؤون الاقتصاد في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين يرى أن قرار لجنة المؤشر بمضاعفة الحد الأدنى للأجور من 9 ملايين الى 18 مليون ليرة (أصبح يوازي 200 دولار، بعدما كان يوازي قبل الأزمة 675 ألف ليرة أي 450 دولاراً) أتى من دون دراسات علمية تأخذ في الاعتبار حاجات الأسرة، بدليل أن المادة الـ44 من قانون العمل اللبناني تلحظ أنه يجب أن يكون الحد الأدنى من الأجر كافياً لسد حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته على أن يؤخذ في الاعتبار نوع العمل ويجب أن لا يقل عن الحد الأدنى الرسمي. ووفقاً للدراسات التي أجرتها في “الدولية للمعلومات” فإن الحد الادنى المثالي الذي يجب إقراره هو 52 مليون ليرة شهرياً أي ما يقارب 580 دولاراً شهرياً، استناداً الى نسب التضخم في العالم وفي لبنان على خلفية ارتفاع أسعار السلع والخدمات محلياً وعالمياً”. واعتبر أن الزيادة اعتباطية ولم تأخذ الواقع المعيشي في الاعتبار، خصوصاً أن أسعار الخدمات والسلع عادت الى الارتفاع تماماً كما كانت قبل الأزمة إن لم نقل أكثر، باستثناء بعض السلع القليلة التي تراجعت 20 أو 25% عما كانت عليه، وتالياً فإن نسب أرباح التجار عادت كما كانت قبل الازمة، أما الرواتب والاجور التي يتقاضاها العمال والموظفون في القطاعين العام والخاص فلا تتعدى 25% أو 50% في أحسن الاحوال من الاجور والرواتب التي كانوا يتقاضوها قبل الازمة”.
والمشكلة بحسب شمس الدين تكمن في رفض المجتمعين في لجنة المؤشر الاعتراف بهذا الواقع، لافتاً الى أن “الطريف في اجتماع اللجنة الاخير هو اعتراف أحد المجتمعين بعدم اقتناعه بالحد الادنى المنصوص عليه في القرار، لكنه وافق عليه بناءً على “مونة” #الوزير محمد شقير، فحلت “مونة” الوزير هنا مكان الدراسات العلمية التي يجب الاستناد إليها لتعدل الحد الادنى، مؤكداً أن “هذه الزيادة لم تحقق ما كان يصبو إليه العمال والموظفون”.
ويرى شمس الدين أن ثمة نقصاً جوهرياً في القرار يتمثل بأن الزيادات أقرت حصراً للحد الدنى للاجور دون أي زيادة على الشطور، وتالياً كل من يتقاضى 18 مليون وما فوق لن يستفيد من أي زيادة على أجره أو راتبه، على عكس ما نصت عليه القرارات والمراسيم السابقة التي تناولت زيادات الاجور، معتبراً أن من الخطأ ترك الزيادات على الشطور بيد أرباب العمل”.
وفي التفاصيل، تبلغ كلفة معيشة الحد الأدنى للأسرة اللبنانية المؤلفة من 4 أفراد تبلغ شهرياً 52 مليون ليرة (أي نحو 580 دولاراً، موزعة كالآتي: سكن: 150 دولاراً أي ما يعاد الآن 13.4 مليون ليرة، ويشكل نسبة %25.7 من إنفاق الأسرة وتسقط هذه الكلفة إن كان المنزل تملكاً أو تقدمة)، السلة الغذائية والاستهلاكية: (تشمل الطعام والمنظفات وورق المحارم وقارورة الغاز (250 دولاراً شهرياً أي بمعدل دولارين للفرد يومياً، بما يوازي:22.37 مليون ليرة، ويشكل نسبة 43% من إنفاق الأسرة ثمن مياه: 1.1 مليون ليرة بدل اشتراك في مياه الدولة + 2.5 مليون لمياه الشرب بمعدل 1.5 ليتر للفرد يومياً، علماً بأن ثمن الـ19 ليتراً يبلغ نحو 250 ألف ليرة أي ما يبلغ 40 دولاراً ويوازي 3.6 ملايين ليرة، كهرباء: فقط كهرباء الدولة بمعدل 200 كيلوواط ساعة شهرياً 40 دولاراً أي ما يوازي 3.6 ملايين ليرة، بدل نقل: يعادل صفيحتي بنزين شهرياً أي 37 دولاراً ما يوزاي 3.3 ملايين ليرة، اتصالات: إنترنت + خلوي: 10 دولارات أي ما يوازي 900 ألف ليرة، ضرائب ورسوم بلدية ومالية: 150 ألف ليرة أي 1.7 دولار، خدمات مشتركة في البناية: 15 دولاراً أي ما يوازي 1.35 مليون ليرة (تسقط هذه الكلفة إن كان سكناً مستقلاً)، مدرسة رسمية لولدين: 2 مليون ليرة ما يوازي 22.3 دولاراً، ألبسة وأحذية: 500 ألف ليرة أي 5.6 دولارات، نفقات طارئة: دواء أو هدية أو عطل بسيط في المنزل: 900 ألف ليرة أي 10 دولارات. وهذه الكفة من دون احتساب كلفة الفحوصات الطبية أو دخول المستشفى أو كلفة التدفئة في الأماكن الباردة ودون احتساب كلفة الترفيه والتسلية.
وتالياً يرى شمس الدين أنه إن كان من الضروري تصحيح الأجور سنوياً بمقدار نسبة التضخم السنوية، فإن من كان راتبه الحد الأدنى للأجور في عام 2018 والبالغ 675 ألف ليرة يفترض أن يتطور راتبه ويصبح 28.5 مليون ليرة.
شماس: “الضمان جرح مفتوح”
تم الاتفاق في لجنة المؤشر على تحديد الحد الادنى للاجور فقط فيما ترك موضوع الشطور لحرية التعاقد بين الموظف وصاحب العمل. مؤكد أن المرسوم الذي سيصدر في هذا السياق سيلحظ فقط زيادة الحد الادنى للاجور بناءً على الاتفاق بين مكونات لجنة المؤشر، فالهيئات الاقتصادية وافقت على زيادة الحد الادنى 100% (من 9 ملايين الى 18 مليون ليرة)، وهذه الزيادة كبيرة نسبياً، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار تعديل الحد الأقصى للكسب الخاضع للحسومات لفرع ضمان المرض والأمومة ليصبح 90 مليون ليرة، أي خمسة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجر الشهري، معتبراً أن الضمان بمثابة “الجرح المفتوح”، فالمترتبات أصبحت مكلفة أكثر من الاجر، من دون أن يفيد الموظف من تقديمات الضمان بما يجبر صاحب العمل على توقيع عقود لموظفيه مع شركات التأمين الخاصة بما يزيد الكلفة عليه”.
لذا يجب التأني برأيه في موضوع الأجور خصوصاً أن مؤسسات القطاع الخاص لم تعد تستطيع مواكبة هذ الزيادات، علماً بأن مؤسسات القطاع الخاص تبادر من دون انتظار الاتفاق على الحد الادنى للأجور الى زيادة الاجور لموظفيها حسب القطاعات وحجم المؤسسة وموقعها الجغرافي وقدرتها على الزيادات. وإذ شدد على حرص أصحاب العمل على ديمومة عمل موظفيهم في مؤسساتهم للحد من هجرة الشباب والكفايات، أكد إيجابية الهيئات الاقتصادية في التعاطي في موضوع الاجور بدليل أنهم عقدوا 21 جلسة للجنة المؤشر منذ تولي الوزير مصطفى بيرم وزارة العمل.
بشارة الأسمر: انتظروا المرسوم
لا يبدو رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر مقتنعاً بالزيادة التي خلصت إليها لجنة المؤشر للحد الادنى الاجور، ولكنه في المقابل يدرك الازمة التي يعيشها القطاع الخاص، لذا يوازن بين العاملين “نعمل في فن الممكن”. كان العمل على أساس 15 مليوناً للحد الادنى، الاتحاد العمالي لم يقبل وأصررنا على20 مليون ليرة، فكان رأي محمد شقير أن نرفع الحد الادنى الى 18 مليون ليرة وعندما تهدأ الاوضاع الامنية في غزة وجنوب لبنان، سنتحاور لرفع الحد الادنى الى 22 مليون ليرة أو 25 مليوناً. ولا يخفي الاسمر أن “وضع المؤسسات والشركات والاسواق حالياً لا يمكن أن يتحمل زيادات كبيرة، خصوصاً أنه تقررت زيادة المنح المدرسية والجامعية الى 12 مليون ليرة، إضافة الى التعويضات التي ضُربت 10 مرات”، لافتاً الى أن “ثمة اتفاقات رضائية بين صاحب العمل والاجير”، مشيراً الى أن “القطاع الخاص، بكل مكوناته، استعاد عافيته في الأعوام الماضية. بيد أن حرب غزة والتوترات الامنية في الجنوب فرملت الانطلاقة القوية للقطاع، وتالياً نحن نقدر أوضاع هذه المؤسسسات والشركات، علماً بأنني اتفقت مع رئيس الهيئات الاقتصادية محمد شقير على إعادة البحث في الحد الادنى للاجور حين تهدأ الاوضاع ويستعيد لبنان عافيته”.
وعن عدم لحظ اتفاق زيادة الحد الادنى الشطور، لم يشأ الاسمر الدخول في التفاصيل، واقتصر رده على هذا السؤال بالقول “ألا تثقون بي… انتظروا المرسوم”، متوقعاً أن “يصدر خلال أيام بعد انتهاء مجلس الشورى من دراسته وإرساله الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء على أن تعقد جلسة مخصصة للموضوع”، خاتماً بالقول إنه “ليس من عدالة أن لا تلحظ زيادة الحد الادنى للاجور الشطور”.
هل ستبدد الملاحظات الاتفاق؟ وهل الدولة قادرة في حال العودة عن الاتفاق واعتماد الشطور والنسب المئوية على تأمين رواتب الـ300 ألف موظف وعسكري ومتقاعد؟ وهل ظروف وأوضاع البلاد الأمنية والاقتصادية تسمح بمغامرة أشبه بسلسلة الرواتب والأجور السيئة الذكر؟
الأجوبة رهن بوعي الحركة النقابية لدورها في الحفاظ والتمسك بما تحقق حتى الآن من استقرار مالي مقبول وخاضع للتطوير عندما تحين الفرصة المؤاتية، وكذلك الأمور مرهونة بقناعة أرباب العمل بأنه لا يمكن للعمال وإن قبلوا مرحلياً بما تم الاتفاق عليه، إلا أن العيش بمئتي دولار في الشهر ليس إلا إذلالاً قد يستولد انفجاراً اجتماعياً في أي وقت.
“النهار”- سلوى بعلبكي