أظهر ملف الامتحانات أن التدخلات السياسية ليست أمراً طارئاً في التربية. المشكلة متجذرة في البنية غير المحصّنة بوجود محميات تؤثر على العمل التربوي كله. وفي الأساس تنطلق الوزارة في قراراتها كمرجعية تربوية متسلحة بالصلاحيات المنوطة بها.
لكن التركيبة السياسية والطائفية للحكم تكرّس هيمنة قوى تفرض وجهتها في المسار التربوي العام، إن كان في الحكومة أو بقوة الأمر الواقع. وعلى هذا تصبح التربية غير قادرة على جبه التدخلات ومواجهة التداعيات التي تفرزها التطورات السياسية واصطفافات قواها. هذا الواقع حال دون النهوض بالعملية التربوية وأظهر أن هناك ممارسات متجذرة لمحميات في المؤسسات أحدثت خللاً تعانيه التربية، لا بل إنها أصبحت حالة معطلة للتعليم.
في موضوع الامتحانات وعلى وقع الجدل الذي رافق قرار التربية إجراء امتحانات بلا مواد اختيارية دخلت السياسة وحساباتها بالضغط على القرار التربوي ومحاولة مصادرته لتثبت القوى المقررة والنافذة هيمنتها وأنها تريد دائماً حصتها في أي مشروع، فضلاً عن حجز دور وموقع لها في الجسم التربوي، ما يجعله أكثر ضعفاً وغير قادر على التطور ومواكبة الحداثة.
لكن أخطر ما يواجه التربية هو ما يعصف بمكوناتها من اصطفافات، حيث ظهرت انقساماتها بالنظر إلى الامتحانات، وقد عبّر بعض ممثليها عن موقف مرجعياتهم السياسية والطائفية بلا اكتراث لموقعهم التربوي، مع العلم بأنه في الامتحانات لم تعد الاستثناءات ضرورية في ظل سنة طبيعية في التعليم، فالاستمرار في الاستثناءات يزيد من النزف الحاصل ويدمّر الشهادة الرسمية خصوصاً أن الجامعات في العالم لم تعد تعترف بالشهادة ولها برنامجها الخاص في قبول التلامذة اللبنانيين. حتى في الجسم التشريعي خصوصاً في لجنة التربية النيابية جرى نقاش ملف الامتحانات من خلفية سياسية، فضلاً عن توصياتها التي لا تقدّم فيها المسألة التربوية ضمن أولوياتها.
الامتحانات الطبيعية للتلامذة بكل المواد تؤسس لاستقرار التعليم والتعويض واستعادة الكفاءة التعليمية، وهذا لا يكتمل إلا بالتزامن مع إصلاحات مطلوبة في التربية على مستوى لبنان. فمن الطبيعي أن تقرر التربية وجهتها، لكنها وسط الانقسامات والاصطفافات تحتاج إلى تغطية غير متوفرة. كان يفترض أن يُمتحن تلامذة لبنان بكل المواد في امتحانات موحدة للشهادة الثانوية، تأسيساً لتوازن العملية التعليمية، وإعادة التلامذة لحضور مواد مثل التاريخ والفلسفة والتربية والجغرافيا، واستكمال البناء التربوي على أسس واضحة تعيد الاعتبار للشهادة والمستوى التعليمي.
الضغوط السياسية ومصالح القوى والمحاصصة والهيمنات لا تريد للتربية أن تكون في موقع قوي بل إدارة مفككة. فليس مطلوباً من المرجعية التربوية أن ترفع منسوب الوطني في الإدارة على حساب المصالح السياسية الضيقة. ولذا نجد التدخل السياسي وممارساته دليلاً على ما تذهب إليه أمور التربية وجسمها ومكوناتها في البلد. والموضوع لا يتعلق بالامتحانات التي ستمر بأقل الخسائر وفق ما تقرر من صيغة متوازنة لإجرائها، بل بالإصلاح التربوي الذي يكشف المحميات ودورها في تكريس الخلل التربوي، باعتباره يعاني من تدخلات أو عبر تأسيس القوى لمؤسساتها التعليمية الطائفية.
الجهود التي يبذلها وزير التربية الدكتور عباس الحلبي لتنقية القطاع التربوي، وإطلاق المناهج الجديدة لا تظهر نتائجها في فترة زمنية محددة، إن كان الهدف تنظيم القطاع والخطط والمشاريع اللازمة لنهوضه.
فالأعطاب التي أصابت التربية سابقاً وحجم التدخل السياسي لا تزال تفعل فعلها في التعليم. أحزاب الطوائف في السلطة تضع يدها على القطاع التعليمي الرسمي وتفرض أحكامها عليه. والواضح أن ما يقره التربويون لا يسري على السياسيين، الذين يستطيعون تعطيل المشروع أو الخطة متى رأوا أنها تتصادم مع رؤيتهم الأحادية الضيقة والمصلحية لما يجب أن تكون عليه التربية وهو ما يحدث في موضوع الامتحانات. ذلك يتطلب رفع هيمنة الاحزاب والقوى عن التربية، وأيضاً نحتاج إلى خيارات إصلاحية، لكسر نظام المحاصصة.