طوال 30 عاماً، بقي «أبو مشهور» ممتنّاً للعمل على بسطة خضار ما دام «ليس هناك ربّ عمل يأمرني»، إلى أن نالت منه الشيخوخة، فتحسّر على معاش تقاعدي أو تعويض نهاية خدمة «يحفظ كرامتي وكرامة زوجتي في كَبرتنا». أما غدير، فتدرك في عزّ صباها «مرارة» العمل غير النظامي في محلّ لبيع الإكسسوارات، إذ «أداوم من العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساءً من دون فترة استراحة، وأحياناً يمرّ شهر بلا يوم عطلة واحد، وصاحب العمل يعاملنا وكأننا ملكه، فيطلب منا مثلاً توصيل طلبات المدام إلى المنزل». ولولا طمع غسان بالمردود المالي، لما تحمّل وحده مسؤولية الوقوع عن «السقالة» والإعاقة الدائمة التي تعرّض لها، بغياب أي نظام رعاية صحية يحميه أو بوليصة تأمين ضد الحوادث، وعدم تبعيته لمؤسسة تواصل دفع راتبه الشهري بعد حوادث العمل.يعتمد المجتمع اللّبناني على أعمال هشّة لا تخضع لقانون العمل أو الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وتختلف دوافع العمل في «الظلّ» بين تفضيل العمل الحرّ على الوظيفة الثابتة ربطاً بمرونة دوامه وعدم خضوع العامل لإملاءات صاحب العمل، إضافةً إلى المردود المالي الذي يفوق في أحيان كثيرة الراتب الشهري، وبين من أجبرتهم البطالة والحاجة إلى أي فرصة عمل تسدّ رمق العيش على «المرّ» باعتبارهما «أمرّ منه». لكن، في جميع الحالات، يُحرَم العاملون في السوق غير النظامية من مروحة الحماية الاجتماعية الواسعة التي تشمل ديمومة العمل، والضمان الصحي، والمنح المدرسية، وإجازة الأمومة، والتعويضات العائلية، وتعويضات نهاية الخدمة، وتحديد ساعات العمل، والتغطية ضد حوادث العمل، إلى جانب الحماية من التنمّر والصرف التعسّفي والاعتداءات الجسدية والجنسية…
قدّرت منظمة العمل الدولية حجم العمالة غير النظامية بـ 62% من القوى العاملة في لبنان عام 2022، في زيادة متسارعة عن معدل 54.9% عام 2019. وتشكل العمالة الأجنبية، ولا سيما السوريّة والفلسطينية، جزءاً مهماً منها، إذ إن «95% من العمال السوريين في لبنان و94% من العمال الفلسطينيين يعملون بشكل غير رسمي»، وفقاً لتقرير المنظمة الذي خلص إلى «توسّع هامش الاستغلال، ومن مظاهره عمل 32.9% من العمّال 50 ساعة أو أكثر في الأسبوع». ويصف «المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين» معدلات العمالة غير النظامية بـ «الصادمة، وخصوصاً أنها لا تشمل العاملين غير المصرّح عنهم رغم عملهم في أعمال يشملها قانون العمل، وتبلغ معدلاتهم بين 12% و15% من القوى العاملة في لبنان، ليبلغ جيش العاملين بشكل غير نظامي 75% من القوى العاملة».
العاملون بشكل غير نظامي يشكلون 75% من القوى العاملة في لبنان
ويقسّم رئيس «الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين في لبنان» كاسترو عبد الله العمل غير النظامي والمعترف به في قانون العمل إلى ثلاثة مستويات: «الأول يرتبط بالعمّال المكتومين، كما حصل مع 1500 سائق يعملون في شركات خاصة مرخّصة في مرفأ بيروت، لجؤوا إلى الاتحاد من أجل الاعتراف بهم وتحصيل حقوقهم. والثاني، يعود إلى العمل في مؤسسة مكتومة غير مسجلة أساساً، وبالتالي تشغّل عمّالاً مكتومين. أما المستوى الثالث، فيشمل العمّال المسجلين في الضمان الاجتماعي، لكن غير مصرّح عن كامل الراتب الذي يتقاضونه».
ومع همروجة تعديل قانون العمل التي أطلقتها وزارة العمل، يحضّر المرصد لمشروع قانون عمل جديد تشمل أحكامه عدداً من المهن لم يأتِ القانون على ذكرها، مثل المزارعين الذين يُعدّون من أكثر الفئات حاجة إلى حماية اجتماعية، نظراً إلى ظروف عملهم الصعبة والقاسية. وتقوم الفلسفة القانونية للمشروع على «شمول مظلّة الحماية الاجتماعية جميع العمّال باختلاف المهن والجنسيات، لضمان الحق في المساواة الذي كفله الدستور اللبناني ونصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأن لكلّ فرد الحق في الضمان الاجتماعي».
ويشدّد المرصد على تطوير قانون العمل ليلحظ المهن الجديدة مثل خدمة إيقاف السيارة «Valet Parking» وخدمة توصيل الطلبات أو «الدليفري» التي «تضمّ وحدها بين 48 ألف عامل و52 ألفاً»، معظمهم يعملون لمصلحة شركات وهمية، و«تطبيقات» قد تتوقف فجأة كما حدث مع منصة «بولت» لتقديم خدمات النقل بالدراجات النارية، والتي توقّفت قبل أشهر من دون سابق إنذار أو تبرير للسائقين المشتركين في المنصة. كما تغيب أي جهة تحمي سائق «الديليفري» من حوادث السير و«التشليح» وسرقة درّاجته النارية، إلى جانب ما يتقاضونه عن عمل بلا راتب ثابت ولا ساعات عمل محدّدة، من مردود زهيد يستقطعون منه كلفة البنزين والإنترنت لتشغيل خرائط الوصول إلى الزبون والتواصل معه.