بعد لقائه نظيره الفرنسي ستيفان سيجورنيه قبل أيام، أطلق وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتس تهديداً للبنان هو الأول من نوعه. قال: إذا لم ينسحب «حزب الله»، فإننا سنحاربه في كل لبنان، وسنقوم باحتلال أجزاء واسعة من الجنوب اللبناني وننشئ فيها منطقة أمنية نمكث فيها طويلاً.
هذا الموقف يرفع مستوى التهديد الإسرائيلي إلى درجة ثالثة: من التهديد بالردّ المحصور في نطاق الجنوب (كما تقتضي قواعد الاشتباك حالياً)، إلى التهديد بحرب شاملة على لبنان بأسره (كما في تموز 2006)، إلى التهديد بإعادة احتلال مناطق واسعة من الجنوب (كما كان الوضع قبل العام 2000).
طبعاً، ليس سهلاً على إسرائيل احتلال الجنوب، إذا درست حساباتها بدقّة. فطهران سترفض بقوة انتزاع منطقة نفوذ وورقة قوية جداً من يدها. وإذا كان الإسرائيليون يتحسبون كثيراً للقتال مع «حماس» المحاصرة والمحدودة الإمكانات في غزة، فإنّ قتالهم مع «الحزب» وإيران في الجنوب اللبناني صعب ويحتاج إلى الكثير من التأني. فعندما كان الإسرائيليون يحتلون الجنوب، قبل العام 2000، عانوا استنزافاً قاسياً ومكلفاً. وعلى الأرجح، هم اليوم، لا يتحمّلون مغامرة من هذا النوع.
ولذلك، يرجح أن يكون التهديد الإسرائيلي بإعادة احتلال الجنوب مناورة للضغط على المفاوض اللبناني، عبر الوسيط الفرنسي، من أجل تحقيق الهدف الأكثر أهمية: فك ارتباط الجنوب بغزة، وإراحة الجبهة الشمالية لإنجاز المهمّة الاستراتيجية في القطاع، وربما لاحقاً في الضفة الغربية.
ليس هناك خلاف بين القوى السياسية في إسرائيل على الهدف الاستراتيجي، أي ضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية. أي إنّ الجميع يريدون تحقيق الهدف بتهجير أهل غزة، والضفة لاحقاً، ومنع إيران من تثبيت صواريخها في المدى الذي يعتبرونه مهدّداً لأمن إسرائيل، في جنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن.
ولذلك، هذه الخطوات سينفّذها الإسرائيليون على التوالي، في الأشهر والسنوات المقبلة، وفقاً للأولويات. وهم لن يضيّعوا الفرصة الثمينة السانحة دولياً بالدعم الأميركي والأطلسي المطلق، والصمت الروسي والصيني، والتشرذم العربي.
لذلك، من العبث أن يراهن الغزيون على منع اجتياح رفح، وعلى نجاح الهدنة مع «حماس». فنتنياهو لا يرى مانعاً من تأمين الإفراج عن دفعة جديدة من الرهائن، بينهم أميركيون، ولو أخَّر العملية المقرّرة في رفح لبعض الوقت، لكنه سينفّذها بالتأكيد. وبعد ذلك، ربما تكون الضفة الغربية خطوته التالية، لكن الأمر يتعلق بالتوقيت. فالغربيون حريصون جداً على استقرار الأردن ونظامه خلال هذه المرحلة الدقيقة.
وفي أي حال، يطمح الإسرائيليون إلى استثمار جهود الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين من أجل ضمان الهدوء على الجبهة الشمالية، لئلا تشغلهم عن معاركهم في الداخل الفلسطيني. وهم يريدون تحقيق هذا الأمر بالديبلوماسية كأولوية، ولكنهم سيحققونه بالنار إذا اقتضى الأمر. ولكن، هل ستتيح إيران للإسرائيليين هذه الفرصة المريحة للانقضاض على الداخل الفلسطيني؟
وهل ستطلب طهران من «حزب الله» وسائر حلفائها في العراق واليمن أن يقفوا مكتوفين، فيما إسرائيل تستفرد بـ»حماس» وتقضي على آخر معاقلها، أم هي على العكس ستطلب منهم التصعيد وتقديم الدعم اللازم لـ«حماس»؟
هناك من يعتقد أنّ الإسرائيليين يفضّلون تأجيل العملية الكبرى في غزة إلى أن يحصلوا على ضمانات في الحدود الشمالية. ولكن، إذا لم تتحقق هذه الضمانات، فإنّهم سيباشرون العملية في أي حال. وثمة من يقول إنّ «حزب الله» الذي اكتفى بالمشاغلة على الحدود طوال 7 أشهر، على رغم وقوع غالبية غزة تحت السيطرة الإسرائيلية، قد لا يفعل شيئاً أكثر من ذلك لدعم «حماس» في رفح.
ولكن في المقابل، ثمة من يتحدث عن سيناريو آخر يتخذ طابعاً دراماتيكياً. فإيران قد تجد نفسها أمام مواجهة مصيرية مع إسرائيل، لا مجال فيها للقبول بالخسارة. فإضعاف حليف طهران في غزة وخسارته سيؤديان إلى إضعاف حليفها في لبنان وخسارته، عاجلاً أو آجلاً. ولذلك، قد تقرّر إيران فتح كل الجبهات معاً على مداها، وبالطريقة التي ردّت فيها على الضربة الإسرائيلية لقنصليتها في دمشق، أي برشقات الصواريخ والمسيّرات في مناطق واسعة داخل العمق الإسرائيلي، وعلى مدى فترات طويلة، ما يؤدي إلى إنهاك منظومة الدفاع الإسرائيلية والحليفة للغرب.
إذا حصل ذلك، فالمنطقة ستكون على أبواب حرب شرسة متعدّدة الجبهات والأطراف، لأنّ الأميركيين والأوروبيين والعرب سيدخلون فيها بأشكال مختلفة. وسيكون لبنان ساحة لأشرس المواجهات الإقليمية، فيدفع ثمناً باهظاً. وهذا ما يتجنّب «الحزب» الانزلاق إليه. ولذلك، هو يفتح الباب للوسطاء وسيعتمد نهج «الصبر الاستراتيجي» حتى إشعار آخر.
طوني عيسى -الجمهورية