تبرز اليوم أهمّيّة الابتكارات الرقميّة في المجالات الحياتيّة كافّة، وخصوصًا في مجال الإدارة العامّة. وأصبحت شرطًا أساسيًّا لتطوير القطاع العامّ في لبنان، وضمان استمراريّة مؤسّساته في خضمّ الصعوبات الاقتصاديّة واللوجستيّة التي يعيشها البلد، وتقديم الخدمات التي ينتظرها كلّ مواطن ومواطنة.
لم تَعُد التقنيّة الرقميّة تقتصر على الدول المتقدّمة وحسب في العقد الأخير، فالدول الناشئة تعتمد كذلك الأمر على الممارسات المبتكرة وتستفيد منها بقدر استطاعتها. فهي لا تؤمّن الخدمات فقط، بل تضمن الشفافيّة وإشراك الجميع في الحكومة الرشيدة والفاعلة.
رَغِبت الدول منذ منتصف القرن الماضي في تنفيذ إصلاحات تهدف إلى زيادة الفعاليّة من حيث تخفيف التكاليف، وكذلك زيادة الرضى لدى المواطنين في أثناء قيامهم بالعمليّات البيروقراطيّة الضروريّة. بالطبع، ترافقت هذه الإصلاحات مع زيادة مستويات المساءلة والمراقبة من ناحية، ورفع الأداء من ناحية أُخرى.
وبوجهٍ عامّ، تمتاز التقنيّات الرقميّة وابتكاراتها في الإدارة العامّة في قدرتها على تعزيز الكفاءة والفعاليّة في المستويات كافّة، حيث تُبسّط العمليّات وتزيل العقبات، وتخفّف الأعباء الإداريّة لدى الجميع، وتقلّل الهدر والتكرار، وتخفّض التكاليف العامّة. كما تمكّن هذه الابتكارات من تحسين جودة حياة المواطن، وتساعده على اتّخاذ القرار عن طريق مشاركته في المواطنة الفاعلة والملموسة، ممّا يعزّز ثقته في مؤسّساته الحكوميّة. فهذه الأخيرة أصبحت قادرة على جمع الملاحظات، والبيانات بسرعة، وتقديم الحلول المبتكرة إلى المواطنين، الذين أصبحوا بدورهم قادرين على اقتراح المشاريع، والتصويت عليها.
كما تقدّم التكنولوجيا الرقميّة إمكانيّة تخصيص الخدمات المقدّمة إلى المواطن، وبالتحديد، الرعاية الاجتماعيّة، والمعاملات الماليّة المرافقة بما يعود بالمنفعة على كل الأطراف، فمن ناحية تحدّ هذه العمليّات من الاحتيال، ومن ناحية أُخرى تُساعد على توسيع رقعة المستفيدين، وتضمّ فئات جديدة من المستبعدين، وتحسّن حياتهم ومستوى معيشتهم.
هكذا، نجد أنّ التحوّل الرقميّ يحمل في جُعبته حلولًا كثيرة للبنان، الذي يُخطّط جاهدًا نحو التعافي الاقتصاديّ، والاجتماعيّ، والصحّيّ، والخدماتيّ. وقد يكون هذا التحوّل شافيًا للمؤسّسات العامّة المتألِمة، ويستطيع أن يطوّرها، ويساعدها على تخطّي عقبتي الفساد والبيروقراطيّة.
حاليًّا، يعرف البلد خطّة استراتيجيّة للتحوّل الرقميّ ضمن إطارٍ زمنيّ يمتدّ لعشر سنوات، وينتهي في العام ٢٠٣٠، وتهدف هذه الخطّة، التي يُشرف عليها مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة، إلى تحقيق الأهداف المرجوّة في الإصلاح المنشود، وركوب موجة العصر الرقميّ أسوةً بباقي الدول. كذلك، تبتغي هذه المبادرة إلى إنعاش القطاع العامّ، وتلبية تطلّعات المواطنين في تقليص وقتهم المهدور، وأموالهم المدفوعة، بما يضمن تعزيز الاقتصاد الرقميّ في البلاد عمومًا.
اليوم، يمكن الحكومة اللبنانيّة أن تستند إلى الابتكار في طموحها نحو تقديم الخدمات بكفاءة أكبر، وإشراك المواطنين “المغتربين” عن حياتهم الديموقراطيّة والتشاركيّة،بطريقة أشدّ فعّالية، وضمان مقدار أكبر من الشفافيّة والمساءلة في عمليّات صنع القرار، وهذه الأمور أكثر إلحاحًا اليوم للبلد من أيّ وقتٍ مضى.
في الختام، نرى أنّ ما يحتاجه لبنان لبلوغ الحوكمة الرشيدة والفاعلة عن طريق التحوّل الرقميّ لا يقتصر على دور الحكومة وحسب، بل يحتاج إلى تكافل كل الأطراف لضمان استمراريّة هذا المشروع واستدامته. ولا يتحقّق ذلك إلّا بالدور الفاعل الإيجابيّ المنتظر من المواطن نفسه، سواء على صعيدٍ فرديّ، أو على صعيدٍ جماعيّ في القطاع الخاصّ. فلبنان يحتاج إلى إعادة الثقة المتبادلة بين الأطراف جميعها، التي تُخضِع نفسها للمساءلة، ضمن إطار الشفافيّة والرغبة في الإصلاح والقضاء على الفساد، بما يُحسِّن من توزيع الموارد العامّة، وتمكين الجميع، وخصوصًا الحكومة من النهوض بلبنان، ولو بدى ذلك لكثيرين أمرًا شبه مستحيل.