ما إن كُشف عن فضيحة “تيك توك” حول اغتصاب الأطفال وكرّت سُبحة التوقيفات بهذا الملفّ، حتى ارتفعت الصرخات من أجل حظر تطبيق “تيك توك”، باعتباره “آفة” لا بدّ من التخلّص منها من أجل “تحرير” المجتمع اللبناني، وسَوقه “من الظلمات إلى النور”.
يتناسى أصحاب نظرية حظر التطبيق أنّ هذه الجرائم وغيرها موجودة قبل “تيك توك” ومن المؤكّد أن تستمرّ بعده ولن تنتهي في حال حُظر التطبيق المذكور أو لا، خصوصاً في ظلّ انحلال الدولة وترهّل مؤسّساتها الأمنيّة والاجتماعية التي أدّت إلى انتشار الجريمة بكلّ أشكالها. أمّا التطبيق فلم يكن سوى وسيلة استغلّتها تلك العصابة من أجل الوصول إلى ضحاياها بشكل أسرع وأكبر.
وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، كان لا بدّ من “تشريح” تلك التطبيقات واستيضاح الخبراء عن مدى تغلغلها في المجتمع اللبناني، وكذلك الاطّلاع على منفعتها الاقتصادية إن وُجدت، خصوصاً تطبيق “تيك توك”: لماذا هذا التهافت عليه؟ وهل يعود هذا التطبيق بمردود مادّيّ على روّاده ومؤثّريه؟ هل هو متورّط في هذه الجريمة أم هو مجرّد مسهّل لها فقط؟ وما علاقة المزاج المجتمعيّ العامّ بهذه القضية؟
خوارزميّة “تيك توك” المختلفة
يلقى تطبيق “تيك توك” رواجاً منقطع النظير في لبنان. إذ أصبح في غضون سنوات قليلة منافساً شرساً لتطبيقات تكبره بسنوات مثل “فيسبوك” و”تويتر” وحتى “إنستاغرام”، بحسبما تُظهر الأرقام. السبب خلف ذلك هو خوارزمية “تيك توك”، التي تختلف عن تلك الخاصة بالتطبيقات الثلاثة المذكورة، والتي تجبر أصحاب الصفحات، أفراداً وشركات، على دفع الأموال في أغلب الأحيان من أجل بلوغ المتابعين بشكل أشمل وأوسع.
لكن “تيك توك” لا ينتهج تلك الاستراتيجية، بل يعتمد في إيراداته على بيع مجموعة متنوعة من الـEmojis للمتابعين، يشترونها ويوزعونها على بعضهم خلال ظهورهم “لايف” من أجل التشجيع، فيجمعها المؤثرون ويسيّلونها مقابل نسبة يقتطعها “تيك توك” من المبلغ عند سحبها بالدولار “الكاش”.
أمّا خلال تصفّح الفيديوهات على التطبيق (بخلاف الظهور “اللايف) فيفتح “تيك توك” هواءه لجميع المتابعين ويترك أهمّية المحتوى ومدى اهتمام الروّاد به أن يقرّرا حجم الانتشار الذي يتخطّى في بعض الأحيان حدود الدول الافتراضية… وصولاً إلى أغلب دول العالم.
هذا الأمر بخلاف “فيسبوك” مثلاً، فهو يضيّق الخناق على روّاده المبتدئين من بين أصحاب الصفحات المتواضعة، وذلك غالباً خلال الأزمات السياسية أو المنعطف المصيري في كلّ دولة، خصوصاً إن لم تكن تلك الأزمة أو الحادثة تحظى بتأييد أو رضى “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة. خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 مثلاً ارتفع التفاعل على “فيسبوك” بشكل مخيف، وأصبحت المشاهدات وعدد الإعجابات بالمئات، بينما خلال حرب غزة صار “فيسبوك” يحاسب الروّاد على الكلمة ويحجب التعليقات لغير الأصدقاء أو يحظر بعض الصفحات.
اهتمامات النّاس هي المعيار
أمّا لناحية الظهور، فإنّ خوارزمية “تيك توك” تدرس بشكل أوتوماتيكي اهتمام كلّ شخص يُحمّل التطبيق على هاتفه، وتعرض عليه ما يحبّ ويهوى: فإذا كنت من هواة المأكولات والأطباق، لن تشاهد على “تيك توك” إلّا الـ”فود بلوغرز” والرحلات السياحية والطبخ والمطاعم. أمّا إن كنت من محبّي الرياضة فسوف تشاهد كلّ ما يختصّ بالألعاب الرياضية والملاعب وغيرها… وهكذا دواليك.
عليه، فالقول إنّ “تيك توك” يروّج لاغتصاب الأطفال أو للرذيلة والخلاعة قد يكون اتّهاماً مردوداً على قائليه، لأنّ الخوارزمية الخاصّة بالتطبيق تعرض لكلّ متابع اهتماماته بشكل مدروس ومحسوب. وبما أنّ المزاج العامّ أصبح يميل غالباً إلى السخافة، فإنّ أصحاب الاهتمامات السخيفة لن تظهر لهم إلا الصفحات السخيفة وذات المحتويات المشبوهة، فتتصدّر المشهد وتفتح المجال أمام استغلال المتابعين من أجل ارتكاب جرم أو “ضرب نصب” أو غير ذلك.
بمعنى آخر، لا يعني هذا أنّ “تيك توك” خالٍ من الصفحات الجدّية أو العلمية المحترمة، إلا أنّ اهتمامات الناس هي المعيار الذي يرفع أسهم هذه الصفحة ويخفض أسهم تلك. وثمّة أمثلة تخالف هذه القاعدة. إذ يحوي “تيك توك” لبنانيين وصلوا إلى حدود العالمية واستطاعوا أن يتصدّروا لائحة أفضل المؤثّرين اللبنانيين بصفحات تضمّ ملايين المتابعين، منهم مثلاً ابنة البقاع المُحجّبة عبير الصغير التي تعرض مقاطع فيديو قصيرة متقنة لصناعة المأكولات والحلويات العالمية من منزلها في البقاع، واستطاعت أن تحصد بشكل لافت وحِرفي، قرابة 25 مليون متابع، من دون أن تنبس ببنت شفة في كلّ فيديوهاتها… وهذا يدحض كلّ ما يقال عن أنّ التطبيق “منحطّ” أو يروّج للرذيلة.
المساهمة الاقتصاديّة لتطبيق “تيك توك”
فوق موضوع الخوارزمية، فإنّ رواج تطبيق “تيك توك” في لبنان خلفه الشأن الماليّ. إذ يكشف الخبير في مجال علوم الكمبيوتر محمد صوفان لـ”أساس” أنّ تقديرات عمل عليها تشير إلى أنّ نحو 200 شخص من بين أفضل المؤثّرين على تطبيق “تيك توك” في لبنان “يحقّقون مجتمعين ما يصل إلى قرابة 100 مليون دولار سنوياً”، بينما يساهم باقي المؤثّرين البالغ عددهم 731 شخصاً، بحسب صوفان، “ما لا يقلّ عن 50 مليون دولار إضافية سنوياً أيضاً”. وهي الأموال التي يحصل عليها المتابعون من تبادل “الهدايا” فيما بينهم (داخل لبنان وخارجه) من خلال الظهور “لايف” (مباشرة) على الهواء وتنظيم المسابقات والتحدّيات، أو من خلال تقديم الهدايا لمجرّد الظهور الذي يكون مرتبطاً في بعض الحالات بالخلاعة والإغراء من أجل الكسب المادّي من أصحاب النفوس الضعيفة.
لهذا غالباً ما لا تحظى التطبيقات الجدّية أو ذات المحتويات العلمية والمنفعة بالاهتمام الكبير، ولا تعود على أصحابها بالمنفعة المادّية… وهذا هو السبب الحقيقي خلف اتّهام الناس للتطبيق بـ”الانحطاط الأخلاقي”.
لكن على الرغم من هذا كلّه، فإنّ إجمالي المساهمة الاقتصادية السنوية التي تدخل لبنان عبر “تيك توك” بواسطة صفحات المؤثّرين، هي قرابة 150 مليون دولار بحسب صوفان، وهو رقم ضخم جدّاً، خصوصاً إذا ما قورن ببقيّة التطبيقات التي تُستخدم في لبنان للحملات الدعائية، أي تُخرج الأموال من لبنان على عكس تطبيق “تيك توك” الذي يُدخل الأموال.
هل يطيح “تيك توك” بـ”فيسبوك”
حتى شهر نيسان من العام الحالي 2024، بلغ عدد مستخدمي “تيك توك” في لبنان نحو 3.9 ملايين مستخدم فوق 18 عاماً. التطبيق حقّق زيادة قدرها 1.1 مليون مستخدم (نحو 41.3%) بين بداية عام 2023 وأوائل العام الحالي 2024. كما أنّ الإحصاءات نفسها، بحسب صوفان، تشير إلى أنّ نسبة وصول الإعلانات إلى المستخدمين في لبنان تقارب 82.5% من قاعدة مستخدمي الإنترنت المحلّيين، وذلك في بداية العام الحالي، بغضّ النظر عن العمر.
أمّا أعمار مستخدمي هذا التطبيق فتشير الأرقام إلى أنّهم موزّعون وفق النسب التالية:
– بين 18 و24 عاماً (75%).
– بين 25 و34 عاماً (22%).
– بين 35 و44 عاماً (1.8%).
– بين 45 و54 عاماً (0.7%).
– فوق 55 عاماً (0.5%).
حتى أوائل عام 2024، كان 69.1% من هؤلاء هم من الذكور، فيما 30.9% من الإناث. تلك الأرقام تظهر بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ تطبيق “تيك توك” مهيمَن عليه لبنانياً من فئة الشباب ما دون الـ24 عاماً، وهذا ما يبرّر على الأرجح تصنيفه “تطبيق الطيش” أو “تطبيق الرعونة” لأنّ أغلب روّاده من جيل الشباب.
“فيسبوك” رجّاليّ… و”إنستاغرام” نسوانيّ
بحسب إحصاءات صوفان أيضاً، فإنّ عدد مستخدمي “فيسبوك” في لبنان بلغ حتى نيسان 2024 قرابة 4.5 ملايين مستخدم، بينهم 52.6% من الذكور و47.4 من الإناث، في حين أنّ النسبة الكبرى من المستخدمين تراوح أعمارهم بين 25 و34 سنة.
أمّا مستخدمو تطبيق “إنستاغرام” فقد وصل عددهم في لبنان إلى قرابة 2.7 مليون حتى شهر نيسان أيضاً، ويشكّلون نحو 59% من عدد السكان. وهم 52.1% إناثاً والبقية من الذكور، بينما النسبة الكبرى من المستخدمين تراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة.
هذه الأرقام والمعلومات تؤكّد أنّ “تيك توك” بريء من دماء الأطفال ومن الجرائم التي جنح البعض إلى إلباسها له. القطبة المخفيّة تكمن في اهتمامات الأطفال والمراهقين، والذوق العامّ لدى هذه الفئة العمرية، وغياب الرقابة الأهلية للأولاد، وليست في التطبيق نفسه.