الاختناق هو ما «يميّز» منطقة عرسال البقاعية. اختناق بأعداد النازحين السوريين الذين حُشروا في مخيمات، واختناق في المعيشة… واليوم بأمراض وأوبئة تنتشر كالنار في الهشيم، بدءاً من التهاب الكبد الوبائي الألفي (الصفيرة) والإسهال والكوليرا وصولاً إلى الجرب والطفح الجلدي. وكما درجت العادة، تُركت عرسال ومعها 164 مخيماً للنازحين لتواجه بمفردها تدهور وضعها الصحي.منذ بداية أزمة النزوح، لم يسترع وضع البلدة البقاعية لا اهتمام الدولة اللبنانية، ولا منظمات الأمم المتحدة، فكانت الخيارات والمشاريع دائماً جزئية تلبية لمصالح ضيقة وشخصية، لتأتي النتيجة كارثية دائماً على شكل أمراض وأوبئة. ويبدو المشهد اليوم أكثر صعوبة مع إدارة المنظمات الدولية الظهر للمجتمعات التي تستضيف نازحين، بعد قرار اتُّخذ أخيراً بـ«تشحيل» إضافي للخدمات إلى ما دون 50%، وهو ما دفع بمنظمة «اليونيسف» إلى تقليص كمية المياه النظيفة التي تزوّد بها المخيمات من 20 ليتراً يومياً لكل شخص إلى 12 ليتراً، وكذلك عدد مرات سحب المياه المبتذلة، الأمر الذي أدّى إلى تسرّب مياه الصرف الصحي وتجمّعها بين الخيم وفي الأزقة والأحياء، ما أدّى إلى إصابات بأمراض مختلفة من اليرقان والتهاب الكبد والجرب… وأتت «الشتوة» الأخيرة لتوسّع بقعة انتشار مياه الصرف الصحي في أحياء البلدة والمخيمات. وما زاد الطين بلّة أن أصحاب الصهاريج الموكل إليهم بموجب عقود وبدلات مالية، شفط مياه الصرف الصحي توقّفوا عن ذلك منذ أسبوع تقريباً، مطالبين بزيادة بدلاتهم المالية (6 دولارات عن كل متر مكعّب من الصرف الصحي)، بحسب ما يؤكد بلال الحجيري أحد مخاتير عرسال لـ«الأخبار».
كل هذا يوصل اليوم إلى الخلاصة التالية: عرسال بلدة موبوءة، حيث تتسارع نسبة الإصابات بالأمراض والأوبئة في المخيمات والمدارس، بحسب ما تؤكد مصادر طبية، حيث «سُجلت حالات إصابة بالكوليرا رغم تلقّي غالبية النازحين لقاحات ضد الكوليرا، وهي تزداد يومياً مع حالات جديدة وأخرى يمكن تصنيفها طبياً بالصعبة جداً».
وتتوزّع الحالات المرضية على المراكز الصحية في عرسال وهيئة الإسعاف الشعبي ومؤسسة عامل وجمعية محمد الأمين (التابعة للسعودية)، إضافة إلى المركز الإسلامي (الجماعة الإسلامية) ومستشفى الرحمة ومستشفى عودة (خاص)، في حين أُقفل فيها منذ فترة مستشفى «أبو طاقية» و«مركز السلام» للسوريين.
ويؤكد الدكتور عبد الباسط سكرية، الطبيب المعالج في أكثر من مركز طبي في عرسال، لـ«الأخبار» وجود حالات «صعبة جداً» بسبب تأخر التشخيص بشأنها، مشدّداً على «ضرورة نقلها إلى المستشفيات»، خصوصاً أن الحالات إلى ازدياد «ولا سيما التهاب الكبد والطفح الجلدي واليرقان». ولفت إلى أنه «يُنقل يومياً طلاب مصابون من إحدى المدارس (رفض ذكر اسمها) التي تضم العدد الأكبر من الإصابات»، مشدداً على «ضرورة عزل المصابين عن عائلاتهم وعدم الاختلاط وتجنب المصابين».
وأكّدت الدكتورة هناء عز الدين وجود «حالتين مثبتتين بالكوليرا نُقلتا إلى أحد المستشفيات للمعالجة، إضافة إلى 156 حالة جرب و15 حالة يرقان و15 حالة جدري، و120 حالة طفح جلدي غريب لم يسبق أن تمّ تشخيص حالات مثلها».
ولا تتطابق الأرقام التي تنقلها عز الدين من «أرض عرسال»، مع ما نشره برنامج الترصّد الوبائي في وزارة الصحة العامة الذي أشار إلى «وجود عدد من الحالات المصابة والمشتبه فيها بفيروس الكبد الوبائي أ (الصفيرة)، مثبت منها إلى الآن حالتان اثنتان و17 حالة مشتبهاً فيها»، مشيراً إلى أن الأرقام غير نهائية مع إرسال عينات جديدة إلى المختبرات لفحصها. مع ذلك، تؤكد مصادر الوزارة أن «الوضع تحت السيطرة» إذ لم يُسجّل حتى الآن دخول أي حالة إلى المستشفيات، وأنه «يجري حالياً جمع عينات مياه وإرسالها إلى المختبرات المرجعية للتأكد من سلامتها ومشاركة نتائجها فور ورودها». أما بالنسبة إلى الإسهال الحاد والكوليرا، فقد «جرى حتى تاريخه الكشف عن حالات محتملة للكوليرا مع إيجابية الفحص السريع، حيث أُرسلت عينة إلى مختبر الجامعة الأميركية في بيروت وهي قيد الفحص والزرع». وفي ما يتعلق بحالات الطفح الجلدي، «تبيّن وجود عدة أمراض من الجرب، إضافة إلى طفح جلدي بقعي حطاطي». ومن المفترض أن يقوم فريق الترصّد الوبائي أيضاً بجمع بعض العينات وفحصها لمرض الحصبة.
مَن المسؤول عن كل هذا؟ لا يجد المختار بلال الحجيري حرجاً من تحميل الدولة اللبنانية المسؤولية، داعياً إياها «للطلب من الوزارات والإدارات المختصة التحرك، كما جمعيات الأمم المتحدة لشؤون النازحين وفي مقدّمها اليونيسف للمسارعة إلى إعادة ضبط هيكلية العمل مجدّداً»، مذكّراً بدراسة قد أعدّتها المنظمات الدولية عام 2018 «حذّرت من أن عرسال ابتداءً من عام 2020 ستكون موبوءة إذا لم تعالج مشاكل المياه والصرف الصحي».