يحاول أحد مرضى نقص المناعة البشرية التعايش مع مرضه الذي بات جزءاً من حياته، 12 سنة مرّت وهو يجاهد ليوازي بين حياته الشخصية وخصوصيته في العيش مع مرضه وبين حياته المهنية التي تكون كما يصفها “على المحك إن اكتُشفت إصابته بالـ HIV”. وكأنه أمام امتحان متواصل عليه أن يواظب على حماية نفسه خوفاً من اكتشاف مرضه وتحمّل العواقب التي غالباً ما تكون الطرد التعسّفي من العمل.
أخيراً، ازداد منسوب القلق والخوف عند مرضى نقص المناعة البشرية، ومن بينهم المريض الذي قرّر أن يُشاركنا هواجسه في بلد يتخبّط بأزماته التي وصلت إلى القطاع الصحّي وتوفُّر الدواء. يقول إنه في “الآونة الأخيرة أصبحنا نتسلّم الدواء كل شهر بشهره بدلاً من شهرين بسبب عدم توفر الأدوية بكمية كافية كما كانت سابقاً”.
ولكن ما يخشاه حقيقة أن ينقطع الدواء نتيجة تكاليفه العالية وصعوبة الحصول عليه إذا ما تعذّر على وزارة الصحة تأمينه كما تفعل منذ سنوات. وما يجهله كثيرون أن فقدان السيطرة على المرض من شأنه أن يؤدّي إلى تكاثر الفيروس في جسم المريض وبالتالي خطر انتقال العدوى إلى المجتمع. بمعنى آخر عودة الفيروس إلى ما كان عليه قبل 30 سنة.
هو ليس وحده الذي يعيش هذا القلق، هو واحد من بين 2800 مريض في لبنان يواجهون المصير نفسه “هاجس انقطاع الأدوية” ويعجزون عن المطالبة بحقهم على الملأ بسبب وصمة العار التي ما زالت ترافقهم وتحاصرهم أينما ذهبوا. هؤلاء المرضى يجدون أنفسهم مقيّدين ومحكومين بالمطالبة بحقهم في الحصول على الدواء “على السكّيت” لأنهم غير قادرين على رفع صرختهم ووجعهم عالياً.
فرض مصطلح “انقطاع الأدوية” نفسه على حياة كل مواطن في لبنان منذ بداية الأزمة الاقتصادية في عام 2019، وأصبح سيناريو “شحاذة الدواء” كما المتاجرة به في السوق السوداء حقيقة ملموسة في محطات عديدة. فهل تلقى أدوية الـHIV المصير نفسه الذي عاشه مرضى السرطان في لبنان؟ ومن هنا تبدأ رحلتنا في البحث عن الأجوبة.في الأيام الماضية الأخيرة، علت صرخة أطباء الأمراض الجرثومية والمعدية من خطر توقف مرضى الـHIV عن تلقي علاجهم. وبالأمس، كانت صرخة الاختصاصي في الأمراض الجرثومية والمعدية البروفيسور جاك مخباط موجعة، هو الذي رافق مرضى نقص المناعة البشرية منذ سنوات طويلة في لبنان، يجد نفسه اليوم يحارب متعباً لتفادي العودة إلى الوراء.
يعتبرها قضيته، هو الذي حمل شعلة مكافحة الـHIV في لبنان يجد نفسه أمام تهديد حقيقي. يؤكد أن “التحذير من خطر انقطاع أدوية HIV ليس من باب التهديد أو التخويف بل من باب اليقين لما قد نكون مقبلين عليه إن لم نرفع الصوت ونضع النقاط على الحروف. إن توقف الحصول على العلاج أو عدم المواظبة على العلاج بشكل مستمر ودائم، من شأنه أن يؤدي إلى تكاثر الفيروس في جسم المريض، والأخطر زيادة خطر انتقال العدوى في المجتمع، أي انتشار العدوى بشكل كبير”.
إذن، المسألة ليست بانقطاع الأدوية بل بالتداعيات الخطيرة التي يمكن أن تخلفها هذه المشكلة على المريض والمجتمع اللبناني. ويرى أن “المريض ليس المعني الوحيد بل إن الخطر يصبح على عائلته ومحيطه والمجتمع. نحن لا نتحدث عن أفراد بل عن مجموعات كبيرة حيث يصبح المرض معدياً والفيروس مقاوماً للعلاج وهنا تكمن الخطورة”.
وتجدر الإشارة إلى أن لبنان سجّل أول إصابة بالفيروس في عام 1984، وبعد خمس سنوات أنشأ برنامجاً مشتركاً بين وزارة الصحة العامة ومنظّمة الصحة العالمية أطلق عليه “البرنامج الوطني لمكافحة #السيدا”.
يعود مخباط إلى لبنان الماضي، يتذكر جيداً أننا “كنّا من أوائل الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي اعتمدت العلاج الثلاثي في مرض نقص المناعة البشرية، كما هي حال الدول الأوروبية والأميركية. ونجحنا في الوصول إلى مرحلة متقدمة في مكافحة الفيروس وتحقيق شروط منظمة الصحة العالمية في هذا المجال. اليوم، نخشى العودة إلى الوراء وفقدان السيطرة على علاج الفيروس بسبب انقطاع الأدوية أو عدم المواظبة على العلاج بشكل متواصل”.
ومن صرخة العيادة إلى صرخة الطبيب عيد عازار الذي غرّد على منصّة “إكس” قائلاً: “برنامج أدوية الـHIV في الكرنتينا توقف عن التوزيع. عم يتصلوا بالناس أصحاب المواعيد حتى ما ينزلوا. مع حجج مثل: “متأخرة الطيارة اسبوعين” وطرح حلول: “الدواء متوافر في الصيدليات بـ70 دولاراً، شوف حكيمك!!” بدون ما يكون الدوا متوافر!”.
ويضيف “أحد أنجح البرامج تحوّل الى فوضى! التوضيح ضروري وبأسرع وقت”.
ننتقل من هواجس الأطبّاء كما المرضى إلى وزارة الصحة في محاولة لفهم أسباب هذا التأخير في تسليم الأدوية.
توضح مديرة البرنامج الوطني لمكافحة السل الذي أدرج ضمنه برنامج الـHIV مع بداية العام الجديد، الدكتورة هيام يعقوب، لـ”النهار” أن “تأخير تسليم الأدوية يعود إلى طلب لبنان من المانحين الاستمرار في الدعم المالي وحاجته له لمواصلة قدرته على تطبيق البرامج الصحية لمكافحة الأمراض ومنها الإيدز. ولكن مع ازدياد الأزمات والحروب في العالم والمنطقة، أصبحت الأمور أكثر صعوبة وانخفضت الموارد وأصبح الدعم أقل”.
ونتيجة هذا الواقع، أرسل وزير الصحة فراس الأبيض كتاباً إلى الصندوق العالمي لمكافحة السل والإيدز والملاريا لطلب استمرار الدعم وتأمين أدوية نقص المناعة البشرية. وبالفعل لاقى طلبه تجاوباً، إلا أن البحث عن داعمين ومانحين وتأمين المبلغ استغرق وقتاً، ما أدى إلى تأخير في استلام شحنة الأدوية كما هي العادة”.
وفي معلومات “النهار”، أرسل طلب شحنة الأدوية في تشرين الثاني، وكان يُفترض أن تصل إلى لبنان في شهر آذار. إلا أنها لم تصل في الوقت المحدّد، وكانت الوعود بالحصول على الدواء في شهر نيسان، ليفاجأ الأطباء كما المرضى بعدم توفر الدواء. لم تُشرح أسباب هذا التأخير، وعزا البعض السبب إلى تأخير بيروقراطي، فيما قيل لبعض المرضى “روحوا اشتروا الدوا”.
واستيضاحاً لهذا الأمر، تؤكد يعقوب أن التأخير في الحصول على الدواء لا يتعدى 3 أسابيع، وفي انتظار وصول الشحنة المقررة، كان لا بدّ من اللجوء إلى الموجود، حيث تتوفر أدوية تكفي لمدة شهر موجودة في الوزارة إلا أنها منتهية الصلاحية منذ شهر آذار. وبناءً على ذلك، طلب وزير الصحة من خبير صحي الحصول على موافقة صرف هذه الكمية المنتهية الصلاحية من دون مخاطر صحية. وبالفعل بعد الحصول على الموافقة، بدأت الوزارة بتوزيع الدواء من جديد”.
ويُعدّ لبنان من بين الدول الست في المنطقة التي يشملها مشروع “استجابة الشرق أوسط للأزمة السورية” ويغطيه الصندوق العالمي.
يُسجّل لبنان بين 200 إلى 250 إصابة جديدة سنوياً بالفيروس. وبالاستناد إلى الإحصاءات الأخيرة، سُجّلت 261 إصابة جديدة في عام 2023 ليزيد العدد التراكمي حتى نهاية عام 2023 إلى 2731 حالة.
من جهة أخرى، يحصل نحو 2350 شخصاً على العلاج المجاني من وزارة الصحة اللبنانية التي تعمل وفق برنامج دولي لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، بينما يفضّل بعض المصابين الدفع للحصول على الدواء لتجنّب تسجيل اسمه في سجل الوزارة والحفاظ على خصوصيته.
تعترف رئيسة جمعية العناية الصحية للتنمية المجتمعية الشاملة “sidc” ناديا بدران لـ”النهار” بأن “أزمة انقطاع أدوية الـHIV لم تكن أمراً متوقعاً لأنها حصلت بطريقة مفاجئة وأحدثت بلبلة وقلقاً عند المرضى. وهذه الضغوط النفسية التي اختبرها المرضى على اختلافهم أثرت على حياتهم وأظهرت عجزهم عن التركيز على نشاطهم اليومي سواء بالعمل أو الدراسة”.
هذه المشكلة وضعت الجمعية، وفق ما تقول بدران، “أمام تحدٍّ جديد والبحث عن طريقة لإيصال الرسالة إلى المرضى الذين قدموا إلينا للحصول على أدويتهم ولم يجدوها. والأصعب غياب المبررات التي يمكن تقديمها للمرضى، فلا شيء يمكن أن يخفّف من هذا الحمل ومن وطأة هذه الأزمة على حياتهم”.
لذلك لا تخفي بدران صعوبة التعامل مع هذه الأزمة “خصوصاً أنها تتناقض مع الرسالة التوعوية التي نحمل شعارها كجمعية والتي تشدد على أهمية عدم التوقف عن العلاج، فيما الواقع فرض علينا أن نواجه مع المرضى أزمة انقطاع الأدوية وعدم توافرها”.
وبناءً على ذلك، إن رفع الصوت اليوم، كما تشدد بدران، “ليس من باب مهاجمة أحد بل انطلاقاً من مبادئ الجمعية التي تهدف إلى التوعية على المرض وعدم ترك المريض يتخبط وحيداً في هذا المجتمع. صرختنا هي صرخة المرضى الذين يعجزون عن رفع صوتهم خوفاً من وصمة العار ونظرة المجتمع الدونية لهم”.
لا يخفي المريض الذي يشارك تجربته الصعوبات التي يواجهها، يعترف بأن “التحدي الأكبر يتمثل بقوانين العمل التي لا تحمي المتعايش مع الفيروس حيث قد أتعرّض للطرد في اللحظة التي يكتشف فيها صاحب العمل وضعي. كذلك تفرض أماكن أخرى ضرورة إجراء فحص نقص المناعة البشرية كخطوة أساسية قبل قبول طلب التوظيف”.
يروي المريض أنه لا يمكن أن ينسى، عندما “اضطررتُ إلى رفض بعض فرص العمل التي كنتُ أحلم بها أو حتى الامتناع عن تقديم الطلب لوظائف خارج البلاد بسبب الفحوص المطلوبة لنيل تأشيرة الإقامة العملية”.
ويضيف أن “بعض المواقف جعلته يشعر بتأثير الفيروس على حياته. ومن أصعب اللحظات التي يمكن مواجهتها والتي تترك آثاراً نفسية في داخلي، صعوبة التبرّع بالدم لأحد الأشخاص المقربين مني أو في حالات طارئة لأي شخص، والبحث عن عذر مقبول لامتناعي عن تقديم المساعدة”.
من ناحية أخرى، تتحدث بدران عن “بعض الأشخاص الذين تُعدّ حالتهم حرجة بسبب ضعف المناعة لديهم ويستحيل وقف إعطائهم الدواء. كما هناك أشخاص بحاجة إلى مباشرة العلاج سريعاً، وبالتالي فإن التأخير في تسلم الدواء يؤثر على هؤلاء الأشخاص، كلٌ حسب حالته الصحّية، ويزيد الخطر على صحتهم وتدهور حالتهم الجسدية والنفسية”.
تسعى الجمعية إلى توضيح كل ما يجري إلى المرضى بطريقة شفافة والتنسيق مع وزارة الصحة لفهم الصورة بشكل أوضح. وتشدد بدران على أنه “لم نحصل على وعود واضحة بالمدة المتوقعة لوصول الدواء، وقد لا تتعدى الأسبوع وقد تصل إلى شهر، ونأمل وصول الدواء في أسرع وقت ممكن”.
ما يهم بدران التشديد عليه أن لا “تتكرر أزمة انقطاع الأدوية في المرحلة المقبلة، وهذا ما نتخوف منه حقيقة. نحن نتحدث عن علاج دائم لا يمكن توقيفه، وفي حال عدم حصول المريض على العلاج، يمكن أن يُشكّل الفيروس خطراً بسبب انتقاله إلى المجتمع ونصبح أمام وباء فعليّ”.
وقد تكون رسالة المريض إلى المجتمع أصدق صرخة يمكن أن تعكس ما يعيشه الشخص المصاب بالفيروس، يقول إن “المجتمع يدمج بين الإصابة بالفيروس وسلوكيات الأفراد ويعتبرهم أشخاصاً ذوي سلوكيات غير أخلاقية. وهذا الأمر لا ينطبق على كل متعايش. لذلك رسالتي لهم أن الوصم الملتصق بالشخص ليس صحيحاً وهو مؤذٍ جداً”.
“النهار” ليلي جرجس