فيما كانت رئيسة مجلس الخدمة المدنية تعلن نهاية الشهر الفائت في تصريح صحافيّ أنّ نسبة الشغور في الإدارات العامة وصلت إلى 73%، خرجت أصوات تتّهم مصرف لبنان في الإعلام، بـ”خنق الإدارة العامة”، وبـ”منع الحكومة من الإنفاق”. قد يظنّ البعض أن لا رابط بين الأمرين، لكنّ تسلسل الوقائع يخبرنا الكثير.
اعتبرت تلك التقارير الإعلامية أنّ دافعي الضرائب يتحمّلون كلفة التصحيح الضريبي وارتفاع الأسعار، لكن على الرغم من ذلك ما زالت غالبية الإدارات الرسميّة إلى اليوم غير قادرة على توفير أبسط الخدمات البديهيّة المتوقّعة منها، مستدلّة على ذلك من خلال مراجعة ميزانيّة مصرف لبنان نصف الشهرية، وتحديداً بند ودائع القطاع العام الذي ينتفخ منذ أن حظر حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري على الحكومة الإنفاق من أجل ضبط سعر صرف الدولار في السوق، والذي بات يوازي اليو
م قرابة 404 تريليونات ليرة لبنانية، أو ما يوازي 4.5 مليارات دولار على سعر صرف السوق (89,500 ليرة).
فهل فعلاً مصرف لبنان يخنق الدولة؟ هل الإدارات الرسمية عاجزة عن تقديم الخدمات بسبب سياسات “المركزي” أم ثمّة أسباب أخرى؟ وهل رقم 4.5 مليارات دولار دقيق؟ ثمّ ما علاقة الشغور في الإدارات العامة حتى يُستهلّ به هذا المقال؟
تقلّص الموازنة العامّة 82%
تشير مصادر شديدة الاطّلاع على بيانات الدولة المالية لـ”أساس” إلى أنّ حجم إنفاق الحكومة اليوم هو قرابة 260 مليون دولار شهرياً، أي قرابة 3.1 مليارات دولار سنوياً، وهو بالفعل حجم الموازنة الذي انحدر إلى هذا الرقم بسبب الأزمة وانكماش الاقتصاد وتضخّم العملة نزولاً من 17 مليار دولار، أي بانخفاض وصل إلى نحو 82% من قيمة الموازنة قبل الأزمة.
هذه الملايين الـ260 تحصل الحكومة على جزء منها من الجباية بالدولار، بينما يتكفّل مصرف لبنان بجمع بقية الدولارات للحكومة من أموالها، وذلك من خلال “عرض الليرة”، أي من خلال بيع الليرات لدافعي الضرائب والرسوم الذين تتكوّن لديهم حاجة إلى شراء الليرة نظراً لشحّها في السوق.
قيمة رواتب القطاع العام من أصل الملايين الـ260 الشهرية، هي 120 مليون دولار أو ما يناهز 46%، وهو رقم كبير جداً نسبة إلى بقيّة التزامات الإدارة التي ستكون مضطرّة إلى دفع تكاليف مصاريفها التشغيلية والمستلزمات اللوجستية التي هي غالباً مقوّمة بالدولار الأميركي.
القطاع العامّ أكبر من قدرات الدّولة
إذا ربطنا نسبة الـ46% بحجم الشغور في الإدارة (73%) الذي تحدّثت عنه رئيسة مجلس الخدمة المدنية واستهللنا به هذا المقال، يمكن الاستخلاص سريعاً أنّ قيمة الرواتب كانت ستتخطّى 200 مليون دولار شهرياً لو لم يكن هذا الشغور قائماً، وتأكل ما يصل إلى 77% من قدرة الحكومة الشهرية على الإنفاق… وهذا كفيل بالقول إنّ تهمة “خنقة الدولة” التي يتحدّث عنها البعض سببها حجم القطاع العام المنفوخ، الذي لم يعد يتناسب مع قدرة ميزانية الدولة على التحمّل، وبات “يأكل من صحن” المصاريف التشغيلية وبقيّة الالتزامات المترتّبة على الحكومة… وهو ما لا يأتي البعض على ذكره!
أمّا اتّهام مصرف لبنان بـ”خنق الإدارة” والاستدلال على ذلك من خلال ميزانية “المركزي”، فلا يخلو هذا الأمر من المواربة. إذ إنّ مُعدّي تلك التقارير يعلمون أنّ ما تملكه الدولة في حساباتها لدى مصرف لبنان (404 تريليونات ليرة) لا يمكن تسييله كلّه أو التصرّف به، لأنّ الجزء الأكبر من المبلغ (قرابة 84% منه)، بحسب ما أفادت بعض المصادر في وزارة المالية “أساس”، هو بـ”الدولار المصرفي” أو “اللولار”، بينما حجم الأموال الباقي (16%) مقسّمٌ مناصفة تقريباً بين الدولار “الفريش” والليرة “الفريش”، وهو ما تستطيع السلطة إنفاقه بالفعل، لكنّه بحسب ما تُظهر الأرقام مدّخرها الوحيد خلال 3 أشهر فقط.
في هذا الصدد، تقول مصادر مصرف لبنان لـ”أساس” إنّ النموّ في ظلّ الظروف الحالية، وخصوصاً بعد دولرة الأسعار والاقتصاد، “لم يعد مرتبطاً بعملة الليرة اللبنانية وإنّما بالدولار الأميركي”.
تضيف المصادر نفسها أنّ “مصرف لبنان لا يطبع الدولارات”، وإنّما فقط الليرة اللبنانية التي تحوّلت إلى عملة الإدارة اليوم. وبالتالي يحتاج القطاع الخاص إلى الدولار وليس إلى الليرة في عملية النموّ، “وهذا أمر ملقى على عاتق المصارف التجارية”، التي يُفترض بها في الظروف الطبيعية أن تكون الجهة المنوط بها استقطاب العملات الصعبة من الداخل والخارج. تلك العملات وظيفتها تقديم خدمة التسليف للقطاع الخاص. ومن هنا يحصل النموّ في الاقتصاد، فتتوسّع الأعمال وتزدهر.
لكنّ هذا الأمر يتوقّف على النجاح في إيجاد حلّ لأزمة الودائع وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي من خلال هيكلته… وهو ما يعود بنا إلى المربّع الأوّل، وتحديداً إلى مربّع “تقاعس السلطة” عن القيام بالإصلاحات، لكن ليست تلك التي يطالب بها المجتمع الدولي وصندوق النقد، وإنّما تلك التي تخصّ هيكلة الإدارة العامة أيضاً.
80 إدارة عامّة.. للإلغاء..
في الحديث الصحافي الذي تحدّثت به رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، كشفت أنّ “نسبة الشّغور في ملاك الدولة تبلغ 73%، وثمّة 27 ألف وظيفة ملحوظة في ملاك الدّولة، لكنّ المشغول منها 7,400 وظيفة، والباقي شاغر…”، مؤكّدة في معرض حديثها أنّه “لن نصرف موظفين بل سنلغي وظائف”.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، ثمّة دراسة أعدّتها واحدة من اللجان النيابية في البرلمان قبل الأزمة، ولم يستطع “أساس” الحصول على نسخة منها من أجل عرض تفاصيلها، لكنّ مضمونها يفيد بحسب أحد الخبراء الاقتصاديين الذين عاصروا تلك المرحلة واطّلعوا بشكل دقيق على ما خرجت به الدراسة، بأنّ ثمّة ما يزيد على 80 إدارة عامّة لم تعد الدولة بحاجة إليها أو لا إلى خدماتها، وأنّ إقفال تلك الإدارات بشكل كامل بات أمراً ضرورياً.
فلو فرضنا أنّ في كلّ إدارة من تلك الإدارات 100 مركز وظيفيّ، فهذا يعني أنّ الدولة بغنى عن 8,000 وظيفة عامة في أقلّ تقدير، وهو ما يعني أنّ القطاع العامّ يعاني حالياً من “نفخة كذّابة”، وهو بحاجة إلى ترشيق، بينما كلام بعض الخبراء المتعلّق بالشغور في القطاع العام قد يكون فيه ما يشبه الـ Bluff المكشوف، خصوصاً في حال تمّ ربطه بعدد الإدارات وبحاجة الدولة والمواطنين إليها بالفعل. لكن لا السلطة مهتمّة بإعادة ترشيق قطاعها العامّ (خزّان السلطة البشري)، ولا حتى صندوق النقد الدولي قد أدرج هذا البند ضمن شروطه الإصلاحية… ولا يُفهم لماذا؟
لكن بمعزل عن ذلك، فإنّ الأمر الأكيد من كلّ ما سبق ذكره أنّ السلطة هي الجهة التي تخنق الدولة وتمنع ازدهارها وليس مصرف لبنان، الذي يضطرّ إلى ضبط إنفاق الدولة من أجل ضبط سعر الصرف الذي يعود بالمنفعة على الجميع وليس على فئة محدّدة ومحصورة بموظّفي القطاع العام. يلجأ مصرف لبنان إلى هذا النهج مضطرّاً مرغماً نتيجة غياب وجمود رهيبين تمارسهما السلطة منذ 5 سعماد الشدياق – اساس ميديانوات إلى اليوم!
فيما كانت رئيسة مجلس الخدمة المدنية تعلن نهاية الشهر الفائت في تصريح صحافيّ أنّ نسبة الشغور في الإدارات العامة وصلت إلى 73%، خرجت أصوات تتّهم مصرف لبنان في الإعلام، بـ”خنق الإدارة العامة”، وبـ”منع الحكومة من الإنفاق”. قد يظنّ البعض أن لا رابط بين الأمرين، لكنّ تسلسل الوقائع يخبرنا الكثير.
اعتبرت تلك التقارير الإعلامية أنّ دافعي الضرائب يتحمّلون كلفة التصحيح الضريبي وارتفاع الأسعار، لكن على الرغم من ذلك ما زالت غالبية الإدارات الرسميّة إلى اليوم غير قادرة على توفير أبسط الخدمات البديهيّة المتوقّعة منها، مستدلّة على ذلك من خلال مراجعة ميزانيّة مصرف لبنان نصف الشهرية، وتحديداً بند ودائع القطاع العام الذي ينتفخ منذ أن حظر حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري على الحكومة الإنفاق من أجل ضبط سعر صرف الدولار في السوق، والذي بات يوازي اليوم قرابة 404 تريليونات ليرة لبنانية، أو ما يوازي 4.5 مليارات دولار على سعر صرف السوق (89,500 ليرة).
فهل فعلاً مصرف لبنان يخنق الدولة؟ هل الإدارات الرسمية عاجزة عن تقديم الخدمات بسبب سياسات “المركزي” أم ثمّة أسباب أخرى؟ وهل رقم 4.5 مليارات دولار دقيق؟ ثمّ ما علاقة الشغور في الإدارات العامة حتى يُستهلّ به هذا المقال؟
تقلّص الموازنة العامّة 82%
تشير مصادر شديدة الاطّلاع على بيانات الدولة المالية لـ”أساس” إلى أنّ حجم إنفاق الحكومة اليوم هو قرابة 260 مليون دولار شهرياً، أي قرابة 3.1 مليارات دولار سنوياً، وهو بالفعل حجم الموازنة الذي انحدر إلى هذا الرقم بسبب الأزمة وانكماش الاقتصاد وتضخّم العملة نزولاً من 17 مليار دولار، أي بانخفاض وصل إلى نحو 82% من قيمة الموازنة قبل الأزمة.
هذه الملايين الـ260 تحصل الحكومة على جزء منها من الجباية بالدولار، بينما يتكفّل مصرف لبنان بجمع بقية الدولارات للحكومة من أموالها، وذلك من خلال “عرض الليرة”، أي من خلال بيع الليرات لدافعي الضرائب والرسوم الذين تتكوّن لديهم حاجة إلى شراء الليرة نظراً لشحّها في السوق.
قيمة رواتب القطاع العام من أصل الملايين الـ260 الشهرية، هي 120 مليون دولار أو ما يناهز 46%، وهو رقم كبير جداً نسبة إلى بقيّة التزامات الإدارة التي ستكون مضطرّة إلى دفع تكاليف مصاريفها التشغيلية والمستلزمات اللوجستية التي هي غالباً مقوّمة بالدولار الأميركي.
القطاع العامّ أكبر من قدرات الدّولة
إذا ربطنا نسبة الـ46% بحجم الشغور في الإدارة (73%) الذي تحدّثت عنه رئيسة مجلس الخدمة المدنية واستهللنا به هذا المقال، يمكن الاستخلاص سريعاً أنّ قيمة الرواتب كانت ستتخطّى 200 مليون دولار شهرياً لو لم يكن هذا الشغور قائماً، وتأكل ما يصل إلى 77% من قدرة الحكومة الشهرية على الإنفاق… وهذا كفيل بالقول إنّ تهمة “خنقة الدولة” التي يتحدّث عنها البعض سببها حجم القطاع العام المنفوخ، الذي لم يعد يتناسب مع قدرة ميزانية الدولة على التحمّل، وبات “يأكل من صحن” المصاريف التشغيلية وبقيّة الالتزامات المترتّبة على الحكومة… وهو ما لا يأتي البعض على ذكره!
أمّا اتّهام مصرف لبنان بـ”خنق الإدارة” والاستدلال على ذلك من خلال ميزانية “المركزي”، فلا يخلو هذا الأمر من المواربة. إذ إنّ مُعدّي تلك التقارير يعلمون أنّ ما تملكه الدولة في حساباتها لدى مصرف لبنان (404 تريليونات ليرة) لا يمكن تسييله كلّه أو التصرّف به، لأنّ الجزء الأكبر من المبلغ (قرابة 84% منه)، بحسب ما أفادت بعض المصادر في وزارة المالية “أساس”، هو بـ”الدولار المصرفي” أو “اللولار”، بينما حجم الأموال الباقي (16%) مقسّمٌ مناصفة تقريباً بين الدولار “الفريش” والليرة “الفريش”، وهو ما تستطيع السلطة إنفاقه بالفعل، لكنّه بحسب ما تُظهر الأرقام مدّخرها الوحيد خلال 3 أشهر فقط.
في هذا الصدد، تقول مصادر مصرف لبنان لـ”أساس” إنّ النموّ في ظلّ الظروف الحالية، وخصوصاً بعد دولرة الأسعار والاقتصاد، “لم يعد مرتبطاً بعملة الليرة اللبنانية وإنّما بالدولار الأميركي”.
تضيف المصادر نفسها أنّ “مصرف لبنان لا يطبع الدولارات”، وإنّما فقط الليرة اللبنانية التي تحوّلت إلى عملة الإدارة اليوم. وبالتالي يحتاج القطاع الخاص إلى الدولار وليس إلى الليرة في عملية النموّ، “وهذا أمر ملقى على عاتق المصارف التجارية”، التي يُفترض بها في الظروف الطبيعية أن تكون الجهة المنوط بها استقطاب العملات الصعبة من الداخل والخارج. تلك العملات وظيفتها تقديم خدمة التسليف للقطاع الخاص. ومن هنا يحصل النموّ في الاقتصاد، فتتوسّع الأعمال وتزدهر.
لكنّ هذا الأمر يتوقّف على النجاح في إيجاد حلّ لأزمة الودائع وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي من خلال هيكلته… وهو ما يعود بنا إلى المربّع الأوّل، وتحديداً إلى مربّع “تقاعس السلطة” عن القيام بالإصلاحات، لكن ليست تلك التي يطالب بها المجتمع الدولي وصندوق النقد، وإنّما تلك التي تخصّ هيكلة الإدارة العامة أيضاً.
80 إدارة عامّة.. للإلغاء..
في الحديث الصحافي الذي تحدّثت به رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، كشفت أنّ “نسبة الشّغور في ملاك الدولة تبلغ 73%، وثمّة 27 ألف وظيفة ملحوظة في ملاك الدّولة، لكنّ المشغول منها 7,400 وظيفة، والباقي شاغر…”، مؤكّدة في معرض حديثها أنّه “لن نصرف موظفين بل سنلغي وظائف”.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، ثمّة دراسة أعدّتها واحدة من اللجان النيابية في البرلمان قبل الأزمة، ولم يستطع “أساس” الحصول على نسخة منها من أجل عرض تفاصيلها، لكنّ مضمونها يفيد بحسب أحد الخبراء الاقتصاديين الذين عاصروا تلك المرحلة واطّلعوا بشكل دقيق على ما خرجت به الدراسة، بأنّ ثمّة ما يزيد على 80 إدارة عامّة لم تعد الدولة بحاجة إليها أو لا إلى خدماتها، وأنّ إقفال تلك الإدارات بشكل كامل بات أمراً ضرورياً.
فلو فرضنا أنّ في كلّ إدارة من تلك الإدارات 100 مركز وظيفيّ، فهذا يعني أنّ الدولة بغنى عن 8,000 وظيفة عامة في أقلّ تقدير، وهو ما يعني أنّ القطاع العامّ يعاني حالياً من “نفخة كذّابة”، وهو بحاجة إلى ترشيق، بينما كلام بعض الخبراء المتعلّق بالشغور في القطاع العام قد يكون فيه ما يشبه الـ Bluff المكشوف، خصوصاً في حال تمّ ربطه بعدد الإدارات وبحاجة الدولة والمواطنين إليها بالفعل. لكن لا السلطة مهتمّة بإعادة ترشيق قطاعها العامّ (خزّان السلطة البشري)، ولا حتى صندوق النقد الدولي قد أدرج هذا البند ضمن شروطه الإصلاحية… ولا يُفهم لماذا؟
لكن بمعزل عن ذلك، فإنّ الأمر الأكيد من كلّ ما سبق ذكره أنّ السلطة هي الجهة التي تخنق الدولة وتمنع ازدهارها وليس مصرف لبنان، الذي يضطرّ إلى ضبط إنفاق الدولة من أجل ضبط سعر الصرف الذي يعود بالمنفعة على الجميع وليس على فئة محدّدة ومحصورة بموظّفي القطاع العام. يلجأ مصرف لبنان إلى هذا النهج مضطرّاً مرغماً نتيجة غياب وجمود رهيبين تمارسهما السلطة منذ 5 سنوات إلى اليوم!
عماد الشدياق – اساس ميديا