ورد في نتائج استطلاع رأي أجريناه على مدى يومين على منصة X ان نحو 59% من الذين صوتوا يعتقدون ان رد الودائع لن يتجاوز سقف الـ 100ألف دولار للمودع الواحد، علماً ان المشتركين في التصويت عبارة عن عينة عشوائية شملت 1207 ناشطين على منصة X غالبيتهم من المهتمين بأزمة الودائع.
الإنطباع الأول هو أن اليأس بدأ يتسلل الى نفوس اللبنانيين عموماً والمودعين بشكل خاص، بعد أربع سنوات ونصف على اندلاع الازمة، وبأنهم اعتادوا على فكرة استحالة استعادة ودائعهم كاملة وقريباً.
لا شك أن هذا «التيئيس» لم يأت من فراغ، بل هو مقصود ومارسته المنظومة السياسية – المصرفية عن سابق اصرار وتصميم طوال سنوات الانهيار، عبر حماية المصارف وعدم اجراء اي محاسبة أو مساءلة لها. بالاضافة الى أن وعد «الودائع مقدسة» الذي أطلقه رئيس المجلس النيابي نبيه بري، لا يزال «صرخة في برية» ليس له أي ترجمة فعلية على الارض، بل العكس تماماً تعرضت ودائع اللبنانيين منذ بداية الازمة الى «هيركات» قاس وصل الى 85 بالمئة، من خلال سحوبات التعاميم المقننة. وبقي منها حالياً 90 ملياراً (دولار وليرة) في حين أنه كان حجمها في صيف 2019 نحو 176 ملياراً.
كل هذه المعطيات تدفع لطرح السؤال التالي: هل خطة التيئيس التي مارستها المنظومة نجحت مرحلياً أم بشكل كلي؟ بمعنى هل يمكن للمودعين أن يستعيدوا الامل بعودة ودائعهم، في حال عودة الانتظام الى المؤسسات الدستورية؟ أم ان الفظائع التي ارتكبتها الطبقة السياسية بالتكافل والتضامن مع المصارف، تمنعهم من الرهان بشكل نهائي على ان حقوقهم ستعاد اليهم يوماً؟
«نداء الوطن»حملت هذا السؤال الى مختصين عايشوا الانهيار والاسباب التي أدت اليه، فأتت اجاباتهم من زوايا متعددة، لكن جوهرها أنه لا يمكن «تطمين» المنظومة بأن خطتها نجحت لأسباب ومعطيات عدة.
فريدة: التعويل يبقى على القضاء الخارجي
يشرح الخبير الاقتصادي الدكتور محمد فريدة وجهة نظره لـ»نداء الوطن»، فيقول: «هذه العينة من المودعين لا نعرف تصنيفها لجهة اذا كانوا من صغار المودعين أم اصحاب الودائع المتوسطة أو الكبيرة، بل هي عينة تخبرنا بشكل عام مدى عدم ثقة المودعين واللبنانيين بالنظام السياسي والمصرفي والمالي والقضائي الذي يتحلل في لبنان».
يضيف: «ما يجب التركيز عليه أن خريطة توزيع المودعين تغيرت بعد ما يزيد على 4 سنوات على اندلاع الازمة. أي ان صغار المودعين الذين كانت ودائعهم أقل من 10 آلاف دولار وكانوا يشكلون تقريباً نصف عدد المودعين، باتوا اليوم خارج النظام المصرفي بسبب التعاميم. وصغار المودعين اليوم هم من يملك بين 100 و200 ألف دولار. وكبار المودعين الذين منذ بداية الازمة لم يحركوا ساكناً كما فعل صغار المودعين»، مشيراً الى أن «الودائع التي كانت تزيد عن مئة مليون دولار في بداية الازمة، كانت موزعة على 31 حساباً بمجموع قدره 7 مليارات دولار، واليوم صار عدد هذه الحسابات11، أي أن 20 حساباً بمجموع 5 مليارات دولار خرجت من النظام المصرفي اللبناني بمساعدة المصرفيين، اي بالتهريب».
ويوضح أنه «كما في ايام البحبوبة كذلك في ايام الازمة، هناك طبقة محظية من المودعين مقربة من اصحاب المصارف ولديها طرق لتخفيف الضرر عنها، كي لا تبقى ودائعها محجوزة كباقي المودعين. والاثر الاكبر وقع على المودع الذي لا يملك منفذاً او تواصلاً مع اصحاب المصرف، او جنسية ثانية تمكنه من الضغط على المصرف الذي يحجز امواله عبر رفع دعوى خارج لبنان»، معتبراً أن «هذا ما يفسر يأس المودعين الذي يظهره الاستطلاع. فهم لا يمكنهم تصديق هذه الطبقة السياسية. فمثلاً وزير المال السابق علي حسن خليل والمسؤول الاول منذ حصول الهندسات المالية 2016، يصرح حول قدسية الودائع ويعد الناس بأنه ( والحزب الذي ينتمي اليه) سيحافظون على اموال المودعين واعادتها».
يضيف: «أعتقد أن الناس باتت واعية لهذا الامر، وتعرف من المسؤول عن تبديد المال العام واموال المودعين وإفلاس البلد، وهو ليس أهلاً للقيام بالمحاسبة او وضع خطط الحل على سكك التنفيذ وتنفيذ الاصلاحات. وما يجب معرفته أن هناك أموالاً موجودة في القطاع المصرفي ومصرف لبنان تكفي لسداد حوالى 88 بالمئة من ودائع الناس، اي الودائع اقل من مئة ألف دولار ومجموعها 16 مليار دولار، هذه الاموال موجودة وكانت موجودة منذ البداية ولكن طريقة استعمالها وحجبها عن المودعين والاستفادة منها بتعاميم الحاكم السابق رياض سلامة الخاصة بالدعم ومنصة صيرفة، والحالي وسيم منصوري الذي يجمع الاموال فقط من خلال جباية الدولة»…
في المقابل يرى فريدة أن «هناك املاً بتغيير يأس الناس عندما تتفعّل اكثر الملاحقات التي تطال المنظومة، ومنها على سبيل المثال أن سلامة الملاحق قضائياً، وايضاً الرئيس نجيب ميقاتي الذي عليه دعاوى قضائية في بلجيكا وموناكو وفرنسا، ومروان خير الدين، بالاضافة الى مجموعة الدعاوى المرفوعة من مودعين في الولايات المتحدة، والدعوى ضد عصابة الاشرار في فرنسا»، مشدداً على أن «هناك مساراً بدأ خارج لبنان ولن يتمكن احد من ايقافه وهو الوحيد الذي يعطي أملاً للبنانيين، علماً أنه مشوب بالمخاطر، لأنه اذا لم يتحرك لبنان ويطالب بحقه قد يخسر المودعون الاموال التي يمكن أن يجنوها من هذه الدعاوى واسترجاعها».
ويختم: «الأمل الوحيد لاعادة اموال المودعين هو من خلال الملاحقات التي تتم في الخارج. وسلامة افضل مثل على خيانة ترتكبها المنظومة بحق المودعين، فهو ملاحق من كل المجتمع الدولي ولكنه خرج من مصرف لبنان وبجعبته 350 مليون دولار (كاش) لاستعماله الخاص، وبالتالي الخلاص من الخارج كي نتمكن من لمس مفاعيله في لبنان وإلا لا يمكن الرهان لا على الطبقة السياسية ولا على ضميرهم».
راشد: صندوق النقد لا يعبأ إلا بصغار المودعين
يجزم الخبير السابق في صندوق النقد الدولي منير راشد لـ»نداء الوطن» أن «رأي العينة التي شملها الاستطلاع مبني على أن كل خطط الحكومة بالتنسيق مع صندوق النقد تستند على شطب الودائع، والحفاظ على صغار المودعين. لكن برنامج الصندوق ينص صراحة على ان أموال صغار المودعين ستسدد بالليرة اللبنانية، وليس بالضرورة على سعر دولار السوق وليس بالدولار، وهذا وارد في تقريرهم الرسمي وليس كما ينقل عن الصندوق بعض المسؤولين اللبنانيين»، مشدداً على أن «الصندوق لم يغير موقفه من هذا الموضوع. لأن المدراء التنفيذيين في الصندوق يرفضون اقراض بلد يتوجب عليه دين بمقدار 500 بالمئة من الناتج المحلي. وسبب الرفض هو انهم يريدون الحفاظ على أموالهم لأن الاموال التي يملكها لبنان في صندوق النقد لا تتعدى 250 مليون دولار».
يضيف: «الدول المساهمة في الصندوق لا تقبل اقراض لبنان في حال لم تعد لديه القدرة على السداد. واللبنانيون يفقدون الامل في استعادة ودائعهم، لأن المسؤولين السياسيين لا يعطونهم الحلول، وينظرون اليهم على أنهم لصوص سرقوا أموالهم»، مشدداً على أن «نسبة 60 بالمئة من العينة تعتبر أن الودائع التي تبلغ أقل من 100 ألف دولار ستعود على الاكثر، وهذا منطقي للأسباب التي ذكرتها لأن رأيهم مبني على أداء الحكومة والمجلس النيابي الحالي اللذين لا يقومان بأي خطوة حقيقية لاعادة الودائع وليس بناء على ما يرغبون به (اي المودعون)».
ويلفت الى أن «ذلك لا يجب أن يكون حافزاً للدولة لاستغلال هذا الامر، لأنه ستكون له عواقب كبيرة قانونية وغير قانونية. لأن هناك مودعين أجانب ومغتربين لبنانيين سيبادرون الى رفع دعاوى على المصرف المركزي والمصارف، ونحن نشهد العديد منها حالياً بالاضافة الى حاملي سندات اليوروبوند. والدليل أن هناك سعياً من الدولة اللبنانية لايجاد تسوية مع حاملي السندات لأنهم يعلمون التبعات القانونية التي ستحصل، والامر نفسه ينطبق على متوسطي وكبار المودعين الذين يعرفون أن ودائعهم مشروعة ولا غبار أو شبهات عليها».
ويتخوف راشد من أن «اليأس الذي يبديه المودعون حيال مصير ودائعهم، ستستغله السلطة وتعتبر أنهم يتقبلون الامر الواقع وهذا غير صحيح. اذ الكثير من المودعين لا يقبلون بشطب ودائعهم، ولكن ينتظرون كيف ستتجه الامور مع الحكومة المقبلة لاتخاذ الخطوات اللازمة، خصوصاً ان خطة صندوق النقد تنص على اعادة اموال صغار المودعين فقط، أما من يملك مليون دولار مثلاً فلا يحصل على شيء»، جازماً بأن «المودعين لم يتدجنوا بفعل تسويف الحكومة الحالية ولكن لديهم امل بعودة اموالهم بعد حصول التسوية السياسية المقبلة. لكن هذه الحكومة لن تقوم بأي خطوة اصلاحية حقيقية، فلن تعيد اموال المودعين الصغار ولن تشطب الودائع بل ستستمر بشراء الوقت عبر تعاميم مصرف لبنان التي تسمح للمودعين بسحب بين 150 و300 دولار شهرياً او على سعر 15 ألف ليرة «.
ويختم: «ليس صحيحاً ان هناك تطويعاً للبنانيين، بناء على نظرية الحزن ثم اليأس ثم تسليم بالامر الواقع، هذه النظرية غير صحيحة بالنسبة للمودعين في لبنان، هم حالياً يائسون من قدرة الحكومة الحالية على القيام باي خطوة لرد أموالهم لا اكثر ولا اقل، والشخص الوحيد الذي يحق له شطب وديعته والتخلي عنها هو صاحب الوديعة نفسه. هذا الامر لا يستقيم لا دستورياً ولا قانونياً ومجلس الشورى أفتى بأن شطب الودائع غير دستوري وغير قانوني».
شماس: الودائع ستعود كاملةً
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور غسان شماس أنه «لا يمكن التعويل على نتائج استطلاعات الرأي لتحديد مصير الودائع»، شارحاً لـ»نداء الوطن» أنه «يجب أن تعود كاملة وليس هناك سلطة لأي جهة بتحديد نسبة ما سيعود منها الا عبر القضاء والقانون وتشريعات مجلس النواب، فهذا الامر لا يتم بقرار اداري من شخص معين».
يضيف: «شخصياً أقول إن الودائع كلها ستعود، وهذا ليس من باب التفاؤل بل من باب الواقع لأن مكانها معروف ولا يمكن لأي طرف الاعلان أنه لا يريد ردها الى أصحابها، لأنه حينها تصبح عملية سرقة ولو صدرت بقانون وهذا الامر باعتقادي لا يمر»، جازماً بأن «انتخاب رئيس او عدمه لن يغير من الامور شيئاً، مفتاح الحل لاعادة الودائع هو في انتظام المؤسسات المالية في لبنان، وهذا يتطلب اجراءات أكبر مما اتخذها نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي، أو من يقترح استعمال أصول الدولة لرد هذه الودائع. في حال تم الاقرار ان الدولة تتحمل الخسائر وتقوم بمحاسبة المصارف وبيعها لمستثمرين جدد، عندها يمكن اعادة اموال المودعين».
ويختم: «هناك العديد من الخطط لاعادة الودائع، لكن حالياً الامور غير مطروحة لأن ذلك يتطلب اعادة نظر بالوضع المالي والنقدي للدولة والمصارف، وما يجري حالياً أن كل الاطراف المعنية لا تزال على حالها، أي وزارة المالية والمصرف المركزي والمصارف، ونحن اليوم نعيش مرحلة ادارة ازمة الى ما شاء الله، ويستمر الهيركات على الودائع بهدف تذويبها. رد الودائع ممكن ويتم من خلال قرار يتخذه القيمون على البلد».
باسمة عطوي -نداء الوطن